الفجوة بين الآباء والأبناء (1)
- يقول ابن القيم رحمه الله: وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قبل الآباء وإهمالهم لهم1
كثرُ الجدل في السنوات الأخيرة حول وجود فجوة بين الآباء والأبناء، وأن الآباء يفكرون بطريقة ما، والأبناء يفكرون بطريقة مغايرةٍ تمامًا، ولعلك تسمع في هذا
الصدد عباراتٍ تقول إن الآباء يفكرون بطريقة قديمة، وإن الأبناء يفكرون بطريقة جديدة، الآباء في خندق التخلف والرجعية، والأبناء في صف التحضر والتقدمية،
الآباء أكثر خبرة.. نعم، ولكنهم أقل ثقافةً وعلمًا من الأبناء، الآباء يفرضون آراءهم والأبناء ما لهم من محيص. ثم انعكس ذلك على وسائل الإعلام، حتى ظهرت أفلامٌ
ومسلسلاتٌ تناقش هذه القضية على طريقتهم وكان أشهرها مسلسلُ: لن أعيش في جلباب أبي. والاسم يعبر عن المضمون.
نعمة التواصل بين الأجداد والآباء والأبناء:
من خصائص الإنسان أنه كائن اجتماعي، لا يَحْيا وحده، ولقد علمتَ الإنسان يَحْيَا ويعيشُ في حيثُ تكون التجمعات البشرية، ومن النعم التي يمتن اللهُ بها على بني
البشر أن قرر فيهم هذا التواصل، حتى على صعيد الأسرة الواحدة، فقال تعالى: {وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ
الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} [النحل: 72] ، فالأصل هو التواصل بين الأجيال الثلاثة: الأجداد والآباء والأحفاد.
وهذه النعمة التي يمتن اللهُ بها، ويجعلها سنةً في البيوت، أضفى عليها السكن والمودة والرحمة، نعمةً فوق ونعمة، فقال:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا
لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}[الروم: 21].
وأحسب أن معاني السكن النفسي، والمودة والرحمة، ليست معاني مقتصرةً على حدود المرء وزوجه، بل عامة وشاملة كلَّ الأجيال من أجداد وآباء وأحفاد.
وشعور المودة ليس شعورًا مقصورًا على الحياة الأسرية بل يمتد إلى خارج البيت.. بل إلى الخصوم أحيانًا: قال تعالى:{عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم
مِّنْهُم مَّوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الممتحنة: 7].
ولقد ضرب الله مثلًا غاية في الروعة للتواصل الـمُعطَّل بين شخصين، هما مَثلُ الخادم وسيده، إذ الأخير يأمرْ، والثاني لا يسمع، فلا تواصل بينهما، ولا تعايش، فكان
المثال صارخًا جدًا، فقال تعالى: {وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلًا رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ
بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}[النحل: 76]
وضرب اللهُ مثلًا لصورة التواصل الطبيعية بين الآباء والأبناء في غير ما موضع في القرآن[2]، ومن أمثلة ذلك:
أولًا: مثال التواصل بين لقمان وابنه:
وكان الدرسُ الأول الذي يُلقيه الأبُ على مسامع الابن في توحيد الله عز وجل: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}
[لقمان: 13].
ثم في عظيم قدرة الله: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 16].
ثم في الفرائض والواجبات: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان: 17].
ثم في الآداب والسلوك: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ. وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ
الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان: 18- 19].
ثانيًا: مثال التواصل بين يعقوب وولده:
{أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَـهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}
[البقرة: 133] فهو يجمع الأولادَ من حوله، يوصيهم وصيته الأخيرة.
قال صاحب الظلال: إن هذا المشهد بين يعقوب وبنيه في لحظة الموت والاحتضار لمشهد عظيم الدلالة، قوي الإيحاء، عميق التأثير.. ميت يحتضر. فما هي القضية
التي تشغل باله في ساعة الاحتضار؟ ما هو الشاغل الذي يعني خاطره وهو في سكرات الموت؟ ما هو الأمر الجلل الذي يريد أن يطمئن عليه ويستوثق منه؟ ما هي
التركة التي يريد أن يخلفها لأبنائه ويحرص على سلامة وصولها إليهم فيسلمها لهم في محضر، يسجل فيه كل التفصيلات؟.. إنها العقيدة.. هي التركة. وهي الذخر.
وهي القضية الكبرى، وهي الشغل الشاغل، وهي الأمر الجلل، الذي لا تشغل عنه سكرات الموت وصرعاته[3].
ثالثًا: مثال التواصل بين إبراهيم وولده:
{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 127] فهو يشرك ولده في أمر دعوته.
ويتعاونان حتى في الدعاء العظيم، وما أكرمه من دعاء! {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}
[البقرة: 128] أي: ربنا، وصيّرنا مُسْلِمَيْنِ لك، طائعين لك، منقَادَين لك، واجعل أولادنا كذلك.. أمةً مسلمةً لك، وأسرةً متحدةً فيك، تسير على مِلتك.. ملةِ الإسلام.
وفقهنا في شرعتنا، وعَرفْنا مُتَعَبَّداتِنا، وأرنا مناسكنا ومذابحنا، نتقرب فيها إليك بالنسك والنحر[4]، وتب علينا من كل ذنب، إنك أنت التواب الرحيم.
رابعًا: مثال تواصل إبراهيمَ مع أبيه، لنصحه وإرشاده:
{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ
فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا * قَالَ
أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم: 41- 47]، وهذا يدخل في
باب أدب الابن مع أبيه، حينما يتحقق الفارق العقائدي بينهما، فكان سلوك الابن مثالًا عاليًا في الرفق والبر.
خامسًا: التواصل بين داود وسليمان:
{وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء: 78]، فهي الشراكة بين الأب والابن في الحُكم والقضاء بين الناس،
ويُؤخذ من ذلك إشراك الأبُ ولده في أعمال البر.
وأن يتعهد الوالدُ ولده، حتى يشارك في العمل الاجتماعي عن فهمٍ وعلم: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا
فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 79].
سادسًا: أمثلةٌ للجانب السلبي:
أ) تواصلُ الأب مع ولدٍ دون آخر، حتى ظهر الحسدُ بين الأبناء، وحقدوا على الذي فضَّله الأبُ، كما في قصة يوسف عليه السلام وأخوته: {إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ
أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ * اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ} [يوسف: 8- 9]
فحدث ما حدث، ودبروا له ما دبروا.
ب) الظلم في الهبات والأعطيات، وهو من أهم الأسباب التي تفسد العلاقة بين الآباء والأبناء. فعَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَأَلَتْ أُمِّي أَبِي بَعْضَ
الْمَوْهِبَةِ لِي مِنْ مَالِهِ، ثُمَّ بَدَا لَهُ فَوَهَبَهَا لِي، فَقَالَتْ: لا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذَ بِيَدِي، وَأَنَا غُلامٌ فَأَتَى بِيَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:
إِنَّ أُمَّهُ بِنْتَ رَوَاحَةَ سَأَلَتْنِي بَعْضَ الْمَوْهِبَةِ، لِهَذَا قَالَ: «أَلَكَ وَلَدٌ سِوَاهُ»، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «لا تُشْهِدْنِي عَلَى جَوْرٍ»[5].
وعنه صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم أنه قال: «اعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلاَدِكُمْ فِي الْعَطِيَّةِ»[6].
وقال أيضًا: «فَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلادِكُمْ»[7]، ولفظ الولد لغةً وشرعًا ينسحب على الذكر والأنثى، فالابن ولد، والبنت ولد، وهما ولدان، وهم جميعًا ذكورًا
وإناثًا أولادٌ.
الفجوة بين الآباء والأبناء (2)
عندما كثرت المشكلات الأسرية في أيامنا هذه، برزت قضية الفجوة بين أجيال الأسرة الواحدة، فبات كثيرٌ من أفراد الأسرة على شتى مراحلهم العمرية ومراكزهم
الأسرية يشتكون من وجود حواجز بين أبناء الأسرة الواحدة، ولعلك تسمع شابًا يقول: أبي لا يفهمني ولا يعرف احتياجاتي! ووالدٌ يقول: أبنائي لا يقتنعون بكلامي!
وفتاةُ تقول: أمي تسيء الظن بي! وأمٌّ تقول: فتاتي ليست صريحةً معي.
ونستطيع أن نشير إلى أسباب تلك الظاهرة في النقاط التالية:
أولًا: كثرة الأعباء الحياتية، والانشغال بلقمة العيش:
نرى أن من أهم أسباب وجود فجوة كبيرة بين الآباء والأبناء؛ هو وقوع الأسرة في طاحونة الأعباء الحياتية، ودوران الآباء والأمهات في دوامة البحث عن لقمة
العيش في زمن تتزايد فيه معدلات الفقر، وتتآكل فيه الطبقة الوسطى في المجتمعات الإسلامية المعاصرة.
الأمر الذي يجعل الآباء في معزل عن البيت فتراتٍ طويلة، حتى ترى من بين الآباء من يمتهن أكثرة من مهنة ليصل بمستوى أسرته الاقتصادي إلى الوضع المأمول.
فيأتي الأبُ في ساعات متأخرةٍ من الليل والبيوت في سبات عميق، الأمُ منهكة، والأولاد نائمون، لم تسنح لهم معيشتهم الصعبة أن يجلسوا على مائدة واحدة ولو لمرة
واحدة في اليوم.
لم يقتصر التقصير في حق الأولاد، أنْ يجلس الأبُ إليهم يعلمهم ويربيهم، بل امتدد التقصيرُ إلى الفرائض والواجبات الشرعية كالصلاة في أوقاتها، وصلة الأرحام،
ونحوهما.
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}[المنافقون: 9].
وهي حياةُ الفتنة بعينها، حينما ينشغل الآباءُ في تلك الدوامة، فتضيع الحقوق.
قال تعالى: {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 28].
قال ابن القيم رحمه الله معلقًا على هذه الآية:
ومعلوم أن اشتغال الناس بأموالهم والتلاهي بها أعظم من اشتغالهم بأولادهم وهذا هو الواقع حتى إن الرجل ليستغرقه اشتغاله بماله عن مصلحة ولده وعن معاشرته
وقربه[1].
وهي حياة القوم الفاسقين الذين انشغلوا بأعراض الدنيا عن تلك الواجبات.
قال تعالى: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ
وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24].
ثانيًا: الفارق الثقافي:
وللفارق الثقافي المتباين بين الآباء والأبناء أثره في اتساع الفجوة بين الجيلين، فأنت ترى كثيرًا من الآباء ممن لا يجيدون الكتابةَ والقراءة وقد رزقهم الله بذرية نالت
قسطًا وافرًا من التعليم لم يتمتع الأبُ بمعشاره، فترى الأبُ يفكر بطريقة الأمي، والابن يتقمص دور المتعالم الذي يعلم كل شيء، ثم يقف الأبناء أمام تلك الإشكالية
قائلين كيف نتواصل مع آباء وهم لا يعلمون، وليسوا في مستوى المثقفين، {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} [الزمر: 9].
ثالثًا: الفارق العمري:
وهو فارق السن الكبير بين الآباء والأولاد في عصرنا هذا، وذلك يأتي بطبيعة الحال من وراء تأخر سن الزواج، وتفشي العنوسة، وغلاء المعيشة، وتحديد النسل،
فإذا ما حصل الزواج والإنجاب كان فارق السن كبيرًا، فتضيق مساحة التوافق الثقافي والعلمي والفكري بين الآباء والأولاد.
رابعًا: غياب التوعية التربوية:
كذلك جهل الآباء بمنهج التربية السليم، وغياب الوعي التربوي داخل البيت من العوامل المؤثرة في اتساع الخرق.
فالآباء يربون الأبناء بطريقة تقليدية موروثة، ليست ممنهجة، ولا تتمتع بأي مرحلية، ولا تأخذ في الاعتبار أسس تربوية لا غنى عنها، كمراعاة الفروق الفردية،
والتدرج في العقاب، والتوازن بين الترغيب والترهيب، والفهم الجيد لمرحلة المراهقة... إلى آخر هذه الأسس التي يجهلها كثيرٌ من الآباء، وتساعد في إحداث تلك
الفجوة بين الأجيال.
خامسًا: غياب الوازع الديني:
وهو أهم الأسباب، فالبيوت المؤمنة الصالحة التي تأتمر بأمر الله، وتنتهي عما نهى الله، هي بيوتٌ سعيدةٌ بحق، لا انفصام لها، وهي قائمةٌ قوية لا تهزها القواصف،
ولا تحركها الهزاهز.
فالأب يتقي الله في أولاده ويؤدي ما عليه لهم، من رعاية وتربية وإرشاد، والابن، كذلك، يتقي الله في أبويه، ويؤدي ما عليه، من بر وإحسان.
ولقد جعل الإسلامُ كل فرد من أفراد الأسرة مسئولًا وراعيًا أمام الله تعالى، فعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ
مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ في أَهْلِهِ وَهْوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ في بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ رَاعٍ
في مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ- قَالَ وَحَسِبْتُ أَنْ قَدْ قَالَ- وَالرَّجُلُ رَاعٍ في مَالِ أَبِيهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ»[2].
فإذا ما انتبه كُلُّ أحدٍ من أفراد الأسرة إلى مسؤوليته أمام الله، زالت الفجوة، وذابت الوحشة، وقويت الأسرة.
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ وَأَنَا خَيْرُكُمْ لأَهْلِي»[3].
إن مسؤولية المسلم عن أهله أمام الله بادية بينة من أول يوم بدأت فيه الدعوة الجهرية، حينما وقف النبي صلى الله عليه وسلم على جبل الصفا ينادي على عشيرته
وأهله:
«يَا بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ، أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ!
يَا بَنِي مُرَّةَ بْنِ كَعْبٍ، أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ!
يَا بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ، أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ!
يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ!
يَا بَنِي هَاشِمٍ، أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ!
يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ!
يَا فَاطِمَةُ أَنْقِذِى نَفْسَكِ مِنَ النَّارِ فَإِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا غَيْرَ أَنَّ لَكُمْ رَحِمًا سَأَبُلُّهَا بِبِلاَلِهَا»[4].
ينادي على أهله! وذلك حتى لا يحدث ذلك الجُوال أو الفصام؛ وهو ذلك السلوك النكد الصادر من بعض الدعاة حينما يأمرون بأمر ولا يأتمرون به؛ ولاسيما على
نطاق أُسَرِهم. وهؤلاء لا فضيلة لهم ولا أثر؛ إذ كيف يستقيم الظل والعود أعوج! ولذلك قال الله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132]. هكذا
ليكون الأب أول المؤتمرين بأمره.
قال الشاعر:
فكلكم راع ونحن رعية *** وكل سيلقى ربه فيحاسبه
وهناك أمثلة كثيرة للتواصل بين الآباء والأبناء في السنة النبوية المشرفة، خاصة في مجتمع الصحابة، فحبذا الرجوع إلى تلك الأمثلة،
فإذا كنتم أحبتي ترون أن ثمة أسبابًا أخرى لحدوث هذه الفجوة، فلا تبخلوا بإرشادنا بها.
ولكم كل التحية
المصدر منتديات القوميون الجدد