أطفالنا بين اللعب والتلفزيون (1)
يعد اللعب النشاط الأساسي المميز لمرحلة الطفولة؛ لدرجة أن الطفل قد ينسى طعامه ولا يشعر بالجوع عندما يندمج في لعبة يحبها، وهي فطرة فطر الله الطفل عليها، وفي الأثر المشهور: (لاعبوهم سبع...) أما ما بعد السبع سنين فهي مرحلة بدء التعليم، واللعب وسيلة رائعة للتعلم إذا ما أحسن توظيفه، وهو يمنح التعليم نكهة مميزة محببة، فما أوسع البون من تعليم الطفل خصائص الحيوان من خلال صورة في الكتاب وبين رؤية الحيوان على الحقيقة ومشاهدته ومراقبته ولمسه واللعب معه إن أمكن.
واللعب في مرحلة الطفولة ليس من أجل الترفيه والاستمتاع فقط، ولكنه من أجل بناء شخصية سوية متزنة، فاللعب الحر يشعر الطفل بالتحقق والثقة والإشباع النفسي، وهذا ما نأمله بالطبع لأطفالنا.
ووفقًا لهذه الرؤية فإن إعادة قراءة لطفولة النبي صلى الله عليه وسلم في بادية بني سعد قد تساعدنا على فهم الإستراتيجية الإسلامية في التعامل مع الطفل في سنوات عمره الأولى، حيث يستطيع الطفل الذي سيصبح فيما بعد خاتم الأنبياء ونموذج الإنسان الكامل أن يمارس النشاط الحركي بحرية كاملة، باعتبار أن النشاط الحركي نشاط مركزي في مرحلة الطفولة، ومن خلال هذا النشاط الحركي وفي بيئة طبيعية مفتوحة يقوى النشاط العقلي الذهني، وفي جو نظيف غير ملوث يقوى البناء الجسماني حيث العلاقة التفاعلية بين الجسد والعقل، فالقاعدة الجسدية الصحية لابد أن تبدأ بداية قوية، وكذلك القاعدة العقلية لابد أن تبدأ هي الأخرى بداية نشطة.
وعندما يصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى سن الرابعة أو الخامسة يقع حادث شق الصدر، وهذه السن هي بداية سن الإدراك والتعلم للطفل والمرحلة الأخيرة من مراحل الطفولة المبكرة مرحلة الحضانة والقلب هو مستودع الذكريات وأول ذكرى تترسب في نفس محمد الطفل صلى الله عليه وسلم هي أن يتم استخراج حظ الشيطان من قلبه.. إنه رفض الشر ليبقى القلب خالصًا للخير.. هذه ببساطة الإستراتيجية الإسلامية والفطرية للتعامل مع الطفل.. مكان مفتوح.. حرية حركة.. طبيعة حية.. تعليمه مبادئ الخير لتترسب في قلبه الصغير وذلك عن طريق آلية مناسبة لعمره العقلي.
تشويه الطفولة:
في منازل مكدسة بالأثاث حيث لا يجد الطفل مساحة للحركة وحيث النواهي القاطعة الزاجرة بعدم اللعب والقفز فوق هذا الأثاث الثمين المنسق لا يجد الطفل سوى الاستسلام للتلفزيون كوسيلة للتسلية حيث يجلس مشدوهًا يشاهد اللعب والجري والقفز بدلًا من أن يمارسه؛ هذه الحالة من السكون التام تنافي طبيعة الطفل النشطة، ولكنها حالة تسعد العديد من الأسر التي لا تتحمل حركة الأطفال الطبيعية وتعتبرها شقاوة وربما قلة أدب.
يدخل الطفل أثناء المشاهدة التلفزيونية في حال أقرب إلى التخدير، فهو يرى ويسمع، ولكنه غائب تمامًا عما يدور حوله باستثناء ما يشاهده، ولقد أجرى العلماء أبحاثًا عدة على أطفال لدراسة هذه الظاهرة فعرضوهم وهم يجلسون في هدوء إلى ضوء ساطع مزعج، وظل الضوء ساطعًا لمدة ثلاث ثوان ثم انطفأ دقيقة واحدة، وتكرر هذا التتابع عشرين مرة، وكان العلماء أثناء التجارب يراقبون التغيرات التي تطرأ على الطفل فيما يتعلق بضربات القلب والتنفس وموجات الدماغ.
وتبين أن الأطفال قد جفلوا عند التعرض الأول للمثير البصري، ولكن شدة رد فعلهم تناقصت بسرعة مع تكرار العملية، حتى ظهرت أعراض أشبه بأعراض النوم عند المرة الخامسة عشرة من خلال تخطيط الدماغ، مع أن أعينهم لا تزال تستقبل الضوء.
وما يحدث للطفل أثناء مشاهدة التلفزيون شبيه تمامًا لهذه التجربة، فالتغيرات السريعة للإضاءة والألوان تفعل الفعل نفسه، وتجعل الطفل على هذه الحال، إن أي نشاط يتطلب تركيزًا ذهنيًّا عاليًا لا يمكن أن يسبب الاسترخاء الذي نلحظه على الأطفال أثناء المشاهدة، والتلفزيون يسبب حالة عقلية سلبية لا تشبه أي شكل من أشكال اللعب.
الوالد الثالث:
حدثنا القرآن الكريم عن نماذج والدية رائعة كلقمان: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].
ويعقوب النبي الذي لم يمنعه حضور الموت وهو الحدث الجلل من متابعة أبنائه: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 133] هذه النماذج القرآنية لم تذكر عبثًا ولكنها ذكرت كي يقتدي بها الآباء، ولنا أن نتساءل كم نقضي من الوقت مع أطفالنا؟ كم ساعة نخصصها لهم في اليوم؟ والسؤال موجه للأب والأم معًا، فالنماذج القرآنية المذكورة كانت لآباء، أما أن يعتبر بعض الآباء أن دورهم هو دور الممول المالي للأسرة فحسب وينهمك في كسب المال وعندما يكون موجودًا لا يمارس اللعب مع الأطفال ولا يحكي لهم قصة ولا يقدم لهم نصحًا بطريقة جميلة أخاذة، فهذا ما تأباه النظرة القرآنية تماما.
وتضيق كثير من الأمهات باللعب مع الأبناء والإجابة عن كثرة أسئلتهم ولا تستشعر متعة الأمومة، وبالتالي لا يجد الأطفال إلا أحضان الوالد الثالث- التلفزيون- وقبل أن يدخل الطفل الروضة من المحتمل أن يكون قد قضى 4000 ساعة يشاهد التلفزيون وهو عدد رهيب من الساعات تفوق بكثير عدد الساعات الخالصة التي تم قضاؤها مع الوالدين أو تلك التي سوف يتم قضاؤها في الروضة.
ضعف الانتباه:
إذا كانت مشاهدة التلفزيون أمرًا واقعًا لابد من التعامل معه بحكمة لكسب أكبر قدر من الإيجابيات وتقليل مساحة الخسائر والسلبيات، إلا أنه لا ينبغي البدء في عملية المشاهدة قبل أن يتم الطفل عامه الثاني على الأقل.
فقد أكدت الأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال في عام 1999 أن الأطفال دون الثانية ينبغي ألا يشاهدوا التلفزيون في هذه السن المبكرة لأنه قد يؤدي إلى نقص الانتباه لدى الطفل فيما بعد كما أن له علاقة بالسمنة والنزعة العدوانية عند الأطفال.
ويقول الباحثون: إنه كلما ازدادت مشاهدة الأطفال للتلفزيون بين سن عام وثلاثة أعوام ارتفع خطر إصابتهم بمشكلات في قدرتهم على الانتباه والتركيز عند سن السابعة.
أطفالنا بين اللعب والتلفزيون (2)
إذا كان التلفزيون كتقنية يعمل على تشتيت انتباه الطفل، ويشير إليه الأطباء كواحد من أهم أسباب سمنة الأطفال التي يصعب التخلص منها بعد ذلك، ومن الحقائق الطبية أن هناك عددًا كبيرًا من الأمراض مرتبطة بعامل السمنة وبالتالي فكثرة المشاهدة تسهم في بناء جيل مريض لا يستطيع النهوض بنفسه أو بأمته.
فإن التعرض لمضمون ما يشاهده الأطفال في التلفزيون التقليدي- أي إذا استثنينا المواد ذات الطابع الإسلامي وبعض البرامج القليلة الهادفة- هو الأسوأ حيث إننا نجد أطفالنا وسط ساحة حرب غير مفهومة تستخدم فيها كل الأسلحة الحقيقية والخيالية وسنجد أنفسنا نغوص في بحيرات من الدماء وتصك آذاننا أصوات الرصاص والمتفجرات، وستعتاد أعيننا مشاهدة القتلى والمشوهين والكائنات الغريبة المرعبة.
إضافة للعنف الرهيب الذي يشاهده أطفالنا فإن عقيدتهم تكون على خطر عظيم، فالأفلام التي يشاهدها الصغار نبتت في بلاد بعيدة غريبة محملة بعقيدة القوم ورموزهم وأساطيرهم التي تتسلل خفية لوجدان الطفل الجالس في حالة انبهار وتلق فتتسلل إلى وجدانه دون أن نشعر.
ولنفس السبب السابق نجد هذه الأعمال محملة بدعوات الانحلال التي يتلقاها الطفل واضحة جلية، حيث النساء بالغات التبرج والعلاقات مفتوحة بين الجنسين، فيعتقد الطفل الصغير بعقله الغض أن ارتداء النساء لهذه الملابس العارية لا يحمل أي معنى سلبي بل هو شيء مقبول ومعقول وهو أجمل مما يراه في بيئته على أرض الواقع، لأن عالم الكرتون الخيالي هو العالم المثالي في عيون الطفل وبالتالي فإن هذه النوعية من الأفلام تجعل الطفل ينمو في حالة من الميوعة والأخطر أنها تنحرف بتفكير الصغير والصغيرة إلى موضوعات لم تزل بعد بعيدة عن أفكارهم وخيالهم بحكم النمو النفسي فكأنها تحرق مراحل مهمة وبريئة في حياتهم، فهو إجبار على النضج قبل الوقت المناسب ولكنه نضج يملؤه الخواء.
هل نمنعه؟!
ما الحل إذن؟! هل نمنع الطفل من مشاهدة التلفزيون؟!! يبدو أن قرار المنع المطلق قرار غير حكيم، فالطفل الممنوع من المشاهدة يشعر بالنقص خاصة عندما يجد الأطفال الآخرين يتحدثون عن الأعمال التي يشاهدونها وقد يدفعهم ذلك لاختلاس المشاهدة ولو كان في مرحلة عمرية أكبر فقد يذهب للمشاهدة عند أحد الأصدقاء مثلًا.
كما أن ثمة إيجابيات قد يحصلها الطفل لو شاهد عددًا معقولًا من الساعات الموجهة التي ربما تساعد على تنمية خياله بالإضافة إلى تعلم اللغة العربية السليمة، لأن الأفلام التي تتم دبلجتها يكون النطق فيها باللغة العربية الفصحى لا بلهجة عامية محلية معينة.
لذلك أرى أن التعامل الإيجابي مع التلفزيون لابد له من أمرين:
الأول: هو عدد الساعات التي يقضيها الطفل أمام التلفزيون، ومن الممكن البدء بتخفيض عدد ساعات المشاهدة بحيث يكون الحد الأقصى للمشاهدة لا يتجاوز الساعتين يوميًّا، في أيام العطلة وحبذا لو وصل عدد ساعات المشاهدة لساعة واحدة فقط، والأمر بحاجة لصبر الوالدين اللذين أدمن أطفالهما المشاهدة بحيث تقل عدد الساعات بالتدريج مع إتباع سياسة النفس الطويل لا سياسة الصدمة.
وتستبدل هذه الساعات بأنشطة أخرى مفيدة للطفل، كحفظ القرآن وقراءة القصص الهادفة، أو ممارسة الرياضة، أو اللعب مع الأصدقاء، أو ممارسة هواية الرسم والتلوين، أو ممارسة ألعاب تنمي الذكاء كلعبة المكعبات والبازل، ومحاولة تقديم البديل عن طريق تشجيع الطفل على مشاهدة الأعمال المخصصة للأطفال التي تنتجها المؤسسات الإسلامية، حتى لو كانت أقل جاذبية وإن كانت هناك جهود كبيرة لقنوات إسلامية تعنى بالطفل بشكل مشوق وبعضها نجح بالفعل في تكوين قاعدة عريضة من الأطفال.
كما لابد من قضاء وقت خاص مع الطفل للاستماع إليه، واللعب معه ومبادلته الحديث مهما كانت الضغوط والمسئوليات.
الأمر الثاني: متابعة ما يشاهده الطفل في هذه الأوقات؛ بحيث نشجع الطفل على تكوين رأي نقدي فيما يشاهد، ورفض الأعمال التي تتعارض مع قيمنا؛ بحيث تتم عملية اختيار واع لطبيعة القصص المشاهدة، والمهم هو إفهام الطفل بطريقة مناسبة لسنه لماذا نوافق على هذا العمل، بينما نرفض الآخر؟ بحيث لو شاهد الطفل العمل المرفوض، ونحن بعيدون عنه، فإنه يرفض مشاهدته أو على الأقل يكون مدركًا للأخطاء الواقعة فيه، وهكذا تتكون لديه حاسة ناقدة هي أساسية لنجاته.
أما الطفل الذي يتركه أبواه فريسة لهذه القصص- سواء في عدد الساعات المفتوحة أو المشاهدة الحرة غير المقيدة- فإنهما قد تخليا عن المسئولية الملقاة على عاتقهما في التربية لصالح آلة إعلامية جبارة ومدمرة للنبت الأخضر البريء وللقلوب الصغيرة الطاهرة.
دعوة للفطرة:
لابد من العودة إذن للمنهج الإلهي كما عاشه خير البرية صلى الله عليه وسلم في طفولته، أي العودة بالأطفال للعب الحر في المكان المفتوح؛ باعتبار ذلك هو الفطرة السوية، وتحجيم ظاهرة اللجوء للتلفزيون كمصدر للمتعة بالنسبة للطفل.. أعلم يقينًا أنها ليست بالدعوة السهلة في هذه الأيام فمعظم المنازل ضيقة، وكثير من الأمهات لا تجد الوقت أو الجهد لمتابعة حركة الأبناء وما قد يترتب على ذلك من فوضى، والآباء منهمكون في الأعمال فلا وقت لاصطحاب الأولاد للنزهات الخلوية، ولكن هذا المنطق مدمر حقيقة، ويقضي على آمال أمتنا في النهضة، فإذا كنا عاجزين أن نبذل بعض الجهد من أجل جيل سوي، من أجل جيل على الفطرة، فكيف ندعي أننا نريد الجهاد في فلسطين، وأننا فقط نريد فتح باب الجهاد، وما إلى ذلك من كلمات كبيرة لا يصدقها إلا العمل؛ فعلينا إعادة تخطيط بيوتنا فنتخلى عن بعض الأثاث الذي تزدحم به منازلنا، ولنجعل بيوتنا أكثر بساطة؛ حتى يستطيع الأطفال أن يلعبوا فهذا حقهم، وهو من الحقوق الأساسية التي ينبغي إشباعها، وهذا أهم بكثير من أن يصبح بيتنا الأكثر فخامة، والأكثر نظامًا وترتيبًا، ولن يهمنا رأي الآخرين الذين يعتبرون أن الأشياء، والأثاث، والتحف أهم من سعادة الأبناء بل لعلنا قدوة لهم، ونسن لهم سنة حسنة، فإضافة إلى أن البساطة قيمة إسلامية كبرى طبقها نبينا ودعا إليها فهي ضرورة تربوية لأن تناقص المساحات الخارجية المتاحة للعب أصبح أمرًا واقعًا.
وعلى الأب مسئولية كبرى في الخروج بالأبناء للأماكن الخلوية الجميلة، ويعتبر ذلك العمل البسيط جهادًا في سبيل الله، لأنه يبغي تكوين جيل النصر على أسس الفطرة، ولعله يتذكر كيف كان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه مهتمًّا بالخروج بالحسن والحسين إلى الخلاء حيث تقوى الأجسام والعقول وتخرج كل الطاقات السلبية لدى الطفل وتحل محلها طاقات إيجابية ومشاعر فرح جميلة بريئة، هذا مع عظم مسئوليات علي وكده وراء لقمة العيش حيث كان يملأ كل دلو من البئر مقابل تمرة وهذا عمل مجهد جدًّا ومردوده المادي ضعيف ولكن هذا لا يدفعه لطلب الراحة في المنزل ولا يجعله يستشيط غضبًا إذا سمع صوت الأولاد يلعبون، بل العكس هو من يشاركهم اللعب هو من يبادرهم لأخذهم بعيدًا للخلاء كي يلعبوا كيفما يحلو لهم. فهل نقتدي، فكلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته.
ودمتم بحفظ الله