لم يذهب إبراهيم إلي عمله في الموعد المعتاد... ولم يعد إلي بيته في المساء مثلما تعودت زوجته... تليفونه خارج نطاق الخدمة... الوقت يمر... والزوجة قلقة، حائرة، تتلاعب بها الأفكار والظنون حتى أضاءت الشمس نور الصباح... ذهبت السيدة انتصار إلى مقر عمله في الشهر العقاري فأخبروها بغيابه منذ الأمس... اتصلت بأهله... وأصدقائه... وزملائه... وذهبت إلى كل الأماكن التي يمكن أن يتردد عليها... لكن بلا جدوى كأنه اختفي من كوكب الأرض!
اعتكفت الزوجة في بيتها تضرب أخماسا في أسداس بعد أن حررت محضرا بغياب زوجها... الأشرار من عائلتها حاولوا إقناعها بأن إبراهيم تزوج عليها ولابد أنه يقضي شهر العسل بينما هي تبكي غيابه ويكاد الحزن أن يقتلها... وأهل الخير من أسرته هو حاولوا أن يمدوها بجرعات الصبر، ربما تكتشف يوما أنه أصيب في حادث أو تعرض لمكروه... وكانت انتصار ترد دائما بأنها لا ترجو أكثر من أن يكون إبراهيم حيا من أجل طفلته الوحيدة، حتى لو كان تزوج عليها كما يشيع الأشرار!
الحياة مستمرة لا تتوقف... كل شيء يسير كالمعتاد... الروتين الحكومي لا قلب له ولا عقل... جهة العمل أرسلت إلى بيت إبراهيم إنذارا بالفصل لتجاوزه فترة الانقطاع عن العمل بلا عذر!... وكل زائر لانتصار يسلي وقته بحكاية سمعها أو اخترعها... لكن انتصار قررت أن تؤجل أحزانها وتمنح عقلها أكبر مساحة للتفكير... وبهدوء تحسد عليه أمسكت بالجوال الثاني الذي نسيه الزوج في البيت حينما خرج منه لآخر مرة... أخرجت كل الأرقام الصادرة والمستلمة والتي لم يرد عليها ثم فرغت الأسماء ومواعيد الاتصالات...
وأخيرا نقلت الرسائل الصادرة والمستلمة وجلست وحدها ذات ليلة تحلل الأرقام والأسماء والرسائل وكأنها من أمهر ضباط المباحث... وقبل أن يصل موكب الفجر توصلت لنتيجة مذهلة... رقم واحد يتكرر بصفة دائمة... وهو نفس الرقم الذي ترسل منه وإليه معظم الرسائل... والغريب أن اسم صاحب الرقم كما سجله إبراهيم هو رأفت!...
راجعت انتصار نفسها مرات ومرات فلم تتذكر أن لزوجها صديق أو زميل بهذا الاسم...؟ وضعت هاتف زوجها جانبا واتصلت من هاتفها بنفس الرقم فجاء علي الطرف الآخر من المكالمة صوت امرأة؟؟... جن جنون انتصار فلم تفتح فمها بكلمة واحدة... أغلقت الخط وقاومت دموعها وهي تعيد قراءة بعض الرسائل علي هاتف زوجها...
هذه خمس رسائل لا يمكن أن يكتبها رجل لرجل... رسالتان من زوجها لصاحبة الرقم وثلاث رسائل من صاحبة الرقم لزوجها تقول له في إحداها:
• أتمني لو عشت عمري كله بين ذراعيك وأن تكون كل ليالي عمري مثل ليلة أمس!!
لم تتردد انتصار مع أشراقة الصباح في الذهاب إلى أحد أقاربها بمديرية أمن الجيزة... عقيد بالإدارة العامة للمباحث... قدمت إليه النتائج التي توصلت إليها من خلال الجوال الخاص بإبراهيم والذي كان لا يتركه من يده مع الجوال الآخر، وكأن القدر كان وراء نسيانه هذا الجهاز ليكون خيطا يساعد في الوصول إليه...
اهتم عقيد المباحث بالبلاغ الذي طلب من قريبته أن تحرره بشكل رسمي... وخلال ساعات وصلت أولي المعلومات الخطيرة من شركة الاتصالات الهاتفية التابع لها الرقم... أخيرا توافرت معلومات مهمة عن اسم وعنوان صاحبة الرقم... السيدة انجي... شارع الهرم!... تحريات أخرى ومكثفة أجراها قسم شرطة الهرم في العنوان المذكور... السيدة انجي صاحبة محل كوافير وتسكن في نفس العقار الموجود به المحل... كما أنها مطلقة من رجل وأرملة بعد أن مات زوجها الثاني الذي ورثت عنه مالا وعقارات رغم أنها خلعت ملابس الحداد عليه بعد أسبوع واحد من وفاته؟... وبعد انتهاء العدة يشاع أنها تزوجت عرفيا من شخص يحمل الجنسية المغربية يزورها شهرا كل عام...؟!.
استدعى عقيد المباحث بواب العمارة في سرية تامة ليوجه إليه سؤالا محددا عن أي شخص آخر كان يتردد على السيدة انجي... تلعثم البواب في البداية ثم أنكر رؤيته لأي رجل يتردد على انجي وبلا مناسبة راح البواب يشكر في أخلاقها ويشيد بسمعتها!
لم يطمئن عقيد المباحث للبواب... خبرته الأمنية جعلته لا يرتاح إلى حارس العقار فأمر بصرفه مع وضعه تحت الرقابة لبيان مدى علاقته بالسيدة انجي التي ربما عرفت باستدعائه فقامت برشوته!... وبنفس السرية استمع الضابط لجيران انجي في نفس الطابق الذي تسكن فيه... وكما توقع الضابط تأكد من كذب البواب بعد أن شهد ثلاثة من الجيران بأن رجلا كان يتردد على انجي في أوقات مختلفة ليلا ونهارا... وأثار شكوكهم حينما كان يزورها بملابس تختلف عن الملابس التي يخرج بها من عندها!!
اهتم الضابط بالقضية التي تتفتح أمامه ساعة بعد ساعة والتي بدأت ببلاغ بسيط من زوجة اجتهدت في كشف لغز اختفاء زوجها دون أن تستسلم للحزن والشائعات!... قام الضابط بزيارة مفاجئة للسيدة انجي... طلب أن تستضيفه على كوب شاي... رحبت به، لكنها لم تستطع إخفاء توترها... سألها عن شخص اسمه إبراهيم كان يتردد عليها...!!...
وكانت مفاجأة من العيار الثقيل حينما اعترفت انجي بأنها كانت تعرف إنسانا بهذا الاسم فعلا... ولكنه اختفى فجأة... سألها الضابط:
• وما نوع المعرفة؟!
= كنت في الشهر العقاري أسجل بعض العقارات التي ورثتها عن زوجي الثاني وأحسن إبراهيم استقبالي... وأنجز لي ما أردت في زمن قياسي فدعوته على العشاء في منزلي، ثم أصبحنا أصدقاء حتى اختفى!
• وكيف علمت باختفائه؟!
= تليفونه مغلق... سألت عنه في عمله فعلمت أنهم لا يعرفون عنه شيئا منذ انقطع عن العمل!
• هل كانت علاقتكما صداقة... أم قصة حب؟!
= كيف أحب رجلا وأنا في عصمة رجل آخر... زوجي مسافر وبيننا قصة حب ولا يمكن أن أرد له الجميل بالخيانة!
• إبراهيم بشهادة جيرانك كان يقيم عندك بالساعات ويغير ملابسه فهل هذا أسلوب يليق بزوجة في ذمة رجل آخر؟!
= حضرتك تحقق معي رسميا؟!
• لا... هذه مجرد تحريات... وأعتذر لك!
عاد الضابط إلى مكتبه وقد ازداد يقينا بأن الشبهات تحوم حول انجي وبواب العمارة، لكن الأمر يحتاج إلى دليل قوي حتى يمكنه أن يحقق معهما رسميا ويحيلهما إلى النيابة!... وقبل أن يفكر الضابط في خطته الجديدة فوجئ بزيارة من ساكن بالشقة المجاورة لشقة انجي سبق استدعاءه ولم يتمكن من الحضور لمرضه... ويبدو أن القدر وحده كان يهدي المباحث خيطا وراء خيط ليسهل من مهمة البحث عن إبراهيم...
أدلى الساكن وهو مدير عام بالمعاش بمعلومة مثيرة... قال ردا على أسئلة الضابط:
= أتذكر أنني في التاريخ الذي حددته سيادتك أنني كنت عائدا في الرابعة فجرا بعد توديع ابنتي بالمطار، وشاهدت سيارة السيدة انجي تعبر بجوار سيارتي دون أن تتنبه لي... والغريب أنني شاهدت بواب العمارة يجلس إلى جوارها... ولا أعرف أين كانا في هذا الوقت المتأخر... عموما وصلت سيارة انجي للمنزل قبل سيارتي... كانت الأمطار تهطل بشدة والبرد ينخر في العظام والشوارع شبه خالية... ولهذا صعدت إلى شقتي بسرعة ولم أفكر في هذا المشهد مرة أخرى حتى سألتني عن علاقة جارتي بالبواب وبأي رجل آخر؟!
مرة أخرى تم استدعاء البواب في مديرية أمن الجيزة وبمواجهته بركوبه بجوار السيدة انجي في سيارتها ذات ليلة ممطرة... السؤال أربك البواب فلم يقدم تبريرا مقنعا للضابط الذي ضيق عليه الخناق حتى قدم اعترافه المثير...
= قرر أنه لم يرتكب سوى خطأ واحد وندم عليه... فقد استدعته السيدة انجي ذات صباح وتفننت بكل السبل التي تغري بها امرأة رجلا حتى انهارت مقاومته، لكنها قبل أن تسلمه نفسها اشترطت عليه أن يساعدها في إيجاد حل لأزمة طارئة تمر بها... وحينما وافق على مساعدتها صارحته بأن إبراهيم صديقها فارق الحياة وهو بين أحضانها... ولا تعرف كيف تتصرف في الجثة دون أن تتعرض للفضيحة!!...
وأضاف البواب قائلا:
= دخلت حجرة النوم وشاهدت الأستاذ إبراهيم عاريا وبلا نبض... اقشعر بدني... لكن رغبتي في المكافأة التي وعدتني بها الست انجي شجعتني على أن أعرض عليها مساعدتي... أخبرتني أن لديها مفتاح قبر العائلة والحل الوحيد أن يتم دفن صديقها في هذا القبر فجرا وسرا؟... وبالفعل ساعدتها وعدت في نفس اليوم للحصول على مكافأتي... وبالفعل كانت أكرم مما تخيلت فقد منحتني بدلا من ليلة حب واحدة عدة ليال لم أكن أسمع ولا أرى إلا هي.!
استأذنت المباحث النيابة في القبض على انجي واصطحابها الى المقابر الخاصة بعائلتها... وما أن واجهها البواب حتى اعترفت وتحدت أن يكون إبراهيم قد مات مقتولا... بل أكدت أنه لقي ربه بأزمة قلبية!... تم استخراج الجثة وتشريحها وأحيلت انجي والبواب إلى محكمة الجنايات بينما واظبت انتصار زوجة إبراهيم على حضور الجلسات وهي في حالة ذهول من اعترافات انجي بقصة الحب الحرام الذي جمعت بينها وبين إبراهيم الذي كان رجلا مختلفا عن كل الرجال كما وصفته وعالما من علماء فن التعامل مع النساء!!
وبعد عدة جلسات حضرتها انجي وبواب عمارتها وهما محبوسان جاء تقرير الطب الشرعي بمفاجأة... إبراهيم مات متأثرا بأزمة قلبية وليس في وفاته أي شبهة جنائية... لكننا حكمنا على انجي والبواب بالحبس عاما مع الشغل لإخفائهما جثة والتستر عليها!...
لكن المثير والغريب أن السيدة انتصار رفضت استلام جثة زوجها بعد أن تم تشريحها لتدفنها في مقابر أسرته أو أسرتها... وقررت بهذا الرفض أمام النيابة... وقالت:
¤ ادفنوه حيث كان... هو الذي اختار... أما أنا فلم أعد زوجته بالموت... وبالخيانة أيضا؟
كانت أرملة المتوفى في غاية العصبية قبل وبعد صدور الحكم ولم يطفئ نارها ما سمعته من اعترافات المتهمة انجي حينما أكدت أن إبراهيم كان نموذجا للإنسان رقيق القلب وأنه رغم حبه الجنوني لها كان ضميره يعذبه كلما تذكر أنه يخون زوجته...
وقالت المتهمة كلمات أذكر منها الآن:
= لقد بكيت كثيرا عليه وأنا أقوم بدفنه... وبقدر ما كنت أحبه وأحب نفسي بقدر ما كرهت هذا البواب الذي نال مني مكافأة لا يستحقها!!
... وما أغرب ما نسمعه في قاعات المحاكم؟
وتقبلوا تحياتي