الجاسوسيه والانياب الخفية للعدو الصهيونى
لا شك أن خبرة المجتمعات العربية والإسلامية في فهم الأعراف والتقاليد الخفية في العلاقات الدولية، هي في واقع الحال خبرة تكاد تكون بكْراً، حيث لم تتعرف على العالم من خلال فضاءات رحبة محررة من القمع المؤسسي الداخلي، والحصار الإعلامي، والدعايات الرسمية التي تؤصل في الوجدان العام إحساسه بأنه وعي قاصر، وأن الدولة أكثر منه فهماً ووعياً وأن عليه أن يسلم ناصية أمره لها، فهي تحب ألا تُسأل عما تفعل، وفيما تفعل، ولا فيما هي الفاعل فيه.
ولقد أغرت هذه الحالة بعض الأنظمة العربية، أو الإسلامية التي أبرمت «اتفاقيات سلام» مع الكيان العبري في النزول عند رغبات وضغوطات هذا الكيان أو الوسطاء «غير المحايدين»، والتوقيع على «تنازلات» بلغت مبلغ المسّ بالأمن القومي لدولها، باعتبار أن شعوب المنطقة ليست على الوعي الذي يؤهلها لفهم تجلّيات ما اتُّفق عليه خلف الأبواب المغلقة.
وفي هذا الإطار، وفي بداية الأمر لاقت كلمة «التطبيـع»، لاسيما في الدول التي خاضت حروباً مع الكيان الصهيوني بعضاً من «ارتياح» شعبي، باعتبار أنها ستضع حداً للاستنزاف الذي تقتضيه حالة الحرب من جهة، والنظر إليها باعتبارها مرادفا لـ«الصداقة» من جهة أخرى، وهي كلمة عند العرب والمسلمين، لها حمولتها العاطفية، واستحقاقاتها الإنسانية وكان هذا في البدايات المبكرة لأول خبرة في هذا الإطار، والتي استهلتها القاهرة في أواخر سبعينيات القرن الماضي هو الرهان الذي راهن عليه «التطبيع الرسمي» في تمرير سيناريوهات تجسير العلاقة مع تل أبيب.
حتى ذلك الحين لم يكن ثمة رأي آخر غير رأي الدولة في مجتمع جرى تغييبه سياسياً، فلا يعرف معنى آخر غير الذي يراه صانع القرار في «دار الرئاسة»، وظهر في غضون ذلك منحى ما سُمّي بـ «كسر الحاجز النفسي» مع العدو، في رسالة لا ندري من كان المقصود بها، وإن كانت تعني في مدلولها النهائي: أن العرب ينتظرون من إسرائيل أن تبادلهم «النيات الحسنة» و«نبل الهدف» و«نقاء القصد» مما يريب بها.
والحال أن هذا كان نوعاً من أنواع المخادعة، تستهدف مخادعة «الداخل- العربي» لا «الخارج -الصهيوني»؛ إذ إن الأخير هو الأكثر وعياً وخبرة في مهارات الإدارة الدولية لقضاياه، ومشاكله تجعله مستعصياً على مثل هذه المخادعة على سذاجتها، وهذه كانت «سقطة» رأت الإدارة المصرية أنها «مهمة» في حينها؛ ربما لأسباب تكتيكية، إلا أنه كان لها تداعيات خطيرة على «الوعي الأمني» عند المواطن العادي، وعند النخب المصرية بشكل عام، والتي كان يعوزها الخبرة التي تؤهلها للمناورة، والتفلّت من عمليات «تجنيد العملاء»، والكشف المبكر والسريع لها.
فليس ثمة صداقة بين الدول، حتى بين تلك التي ليس بينها عداوات، أو ثارات تاريخية؛ فالثابت والمتواتر من التراث السياسي الإنساني أن اتفاقيات السلام أو الصداقة لا تشكل مانعاً في أي لحظة يحول دون أن يعمد الأصدقاء إلى التجسس بعضهم على بعض؛ وذلك لأن أجهزة المخابرات تعمل بداهة وفق قاعدة ثابتة، يعرفها المشتغلون بالرأي العام، وهي: «أنه ليس في السياسة -وفي علاقات الدول- صداقات ولا عداوات دائمة، وإنما مصالح دائمة»، ولوزير الخارجية الأمريكي الأسبق (هنري كيسنجر) مقولة مشهورة في هذا الإطار كثيراً ما يستشهد بها الخبراء الأمنيون على القاعدة؛ إذ يقول: «لا يوجد في العالم أصدقاء وأعداء، ولكن أعداء بدرجات مختلفة».
والحال أن أفضل أنموذج لصدق هذه المقولة، هو النموذج «الأمريكي - الصهيوني»، فهما دولتان تتجاوز العلاقة بينهما ما تواطأ دولياً بأنه «صداقة»؛ فهما حليفان عضويان، بلغت حميمية العلاقة بينهما مبلغ أن أستقر في الوجدان والضمير الدولي، أن الثانية هي إحدى ولايات الأولى، ومع ذلك اكتشف العالم أن الولايات المتحدة كانت ولا زالت ساحة مستباحة لعمليات تجسس صهيونية واسعة النطاق كان أشهرها قضية الجاسوس الصهيوني (جوناثان بولارد) الذي كان يعمل في البحرية الأمريكية، ونقل أكثر من خمسمائة ألف وثيقة أمريكية إلى الكيان الصهيوني، وقضية رئيس المخابرات المركزية الأمريكية نفسه (جون دويتش) عام 1995، الذي قام هو أيضاً بنقل معلومات ووثائق سرية إلى منزله دون معرفة وموافقة الجهات المعنية؛ حيث أثبتت سلطات التحقيق أنه كان يسلمها إلى السفير الإسرائيلي في واشنطن (بن إليعازر)، وقد ترك (دويتش) منصبه في عام 1996 بعد أن قدّم اعتذاراً رسمياً، ثم كانت قضية (مارتن أنديك) السفير الأمريكي في الكيان الصهيوني الذي فوجئت الأوساط السياسية والدبلوماسية في واشنطن عام 1999 بإيقافه عن عمله، ووضعه رهن التحقيق؛ بتهمة ارتكاب جريمة تتعلق بالأمن القومي الأمريكي، واستدعائه إلى واشنطن للتحقيق معه بعد تجريده من امتيازاته السياسية والأمنية؛ حيث ثبت أنه حوّل معلومات سرية من أجهزة الكمبيوتر الخاصة بوزارة الخارجية الأمريكية والسفارة، إلى جهاز الكمبيوتر الخاص به، ومنه إلى أجهزة كمبيوتر الموساد، وهو الأمر الذي أدى إلى اطلاع المسئولين الصهاينة على خطة الإدارة الأمريكية للتفاوض مع الدول العربية والكيان الصهيوني، ومن ثم تحسين موقف المفاوض الصهيوني، وهو الأمر نفسه تكرر مع المرشح سفيراً للولايات المتحدة في البحرين (رونالد نيومان) الذي كان أيضاً على اتصال بالموساد.
وقد واكبت فضيحة مارتن أنديك فضيحة تجسس صهيونية أخرى كشفت عنها مجلة (أنسايت) الأمريكية المتخصصة في شؤون المخابرات، عندما ذكرت أن مكتب التحقيقات الفيدرالية FBI يقوم بالتحقيق في قضية تجسس كبرى، تقوم بها دولة الاحتلال داخل الولايات المتحدة من خلال التنصت على الاتصالات الهاتفية والإلكترونية لكبار المسئولين، وخاصة في البيت الأبيض، ومجلس الأمن القومي، ووزارة الخارجية، ونقلت المجلة عن مصادر أمنية أمريكية أن وزارة العدل تعرقل جهود مكتب FBI لتقديم لائحة اتهام رسمية ضد المتهمين في هذه القضية، بزعم أن ذلك من الممكن أن يؤثر سلباً على العلاقات مع الكيان الصهيوني في حين أكد تقرير عن القضية ذاتها صدر عن وكالة (درادج ريبورت) المختصة في الشؤون المعلوماتية أن عمليات التنصت التي كانت تجري منذ أربع سنوات كانت تتم بواسطة شركة اتصالات موجودة في واشنطن تملكها (الموساد)، تقوم باختراق شبكات الاتصالات السياسية، والأمنية السرية في الولايات المتحدة.
كما كشف تقرير آخر أن مكتب FBI قد تعقب جاسوساً صهيونيا كان يعمل لحساب شركة الاتصالات المحلية المشار إليها، وزوجته معروفة باعتبارها عميلة للموساد في واشنطن؛ ولأنها كانت تعمل في السفارة الصهيونية وتتمتع بالحصانة الدبلوماسية، فلم تتمكن FBI من التحقيق معها، وقد عُثر في حوزة العاملين في هذه الشركة على أرقام هواتف حساسة لبعض المسئولين الأمريكيين الكبار الذين يستخدمون الشفرات الاتصالية في دوائر الأمن القومي التي يطلق عليها اسم «خطوط المكتب الأسود»، ومنها اتصالات دولية يؤدي الكشف عنها إلى التعرف على طبيعة نظام أجهزة مكافحة التنصت، وأن لهذه الشركة شخصاً كبيراً في أحد الأجهزة الأمريكية الحساسة، يسهِّل لها عمليات التنصت؛ ولكن لأن الأمور المتعلقة بعمليات التجسس الصهيونية داخل الولايات المتحدة تندرج تحت أقصى درجات السرية، وقد تُكلِّف الذين يحشرون أنوفهم فيها مستقبلهم الوظيفي، فقد تمّ (لملمة) هذه القضية أيضاً وإسدال الستار عليها.
وكان قد سبق لمكتب (التحقيقات الفيدرالية) أن قدّم العديد من التقارير للمسئولين الأمنيين أشار فيه إلى خطورة وجود جواسيس صهاينة يقومون بالتجسس على الجهات العاملة في (وادي السليكون) بولاية كاليفورنيا؛ لجمع أحدث أسرار العلم والتقنية التي توصلت إليها الشركات الأمريكية، وجاء في تقرير رفعته وكالة المخابرات المركزية الأمريكية ( CIA ) إلى لجنة المخابرات بالكونغرس: أن دولة الاحتلال تعتبر واحدة من ست دول أجنبية تقوم أجهزة مخابراتها العلمية بجهود حثيثة لجمع أسرار عسكرية، وتكنولوجية، واقتصادية، وسياسية تخص صميم الأمن القومي الأمريكي، فإذا كان هذا هو حال «الكيان الصهيوني» مع حليفته الرئيسة «أمريكا»؛ فما بالنا بحالها مع العالم العربي؟!
لا شك في أن التطبيع مع الكيان الصهيوني، وما تبعه من تحول كبير في علاقات العالم العربي الدولية، ورهانه على الإدارة الأمريكية في الخروج من أزماته المتفاقمة، أدخل المنطقة في خبرة جديدة عليها، وغير مسبوقة في عمليات متنوعة ومتباينة من الاختراق الأمني والاستخباراتي؛ إذ بات النفوذ الأمريكي، والذي تربطه مصالح مشتركة مع الكيان الصهيوني في استكشاف ومعرفة تفاصيل الحياة العربية، أكثر حضوراً داخل المجتمع العربي، يقيم مع مؤسساتها، سواء الرسمية أو المستقلة «علاقات ملتبسة»، في وقت كانت فيه السلطات المركزية المحلية تتحرج من التصدي لها خشية الصدام مع الطرف الأمريكي، وعلى سبيل المثال: في مصر، وفي ثمانينيات القرن الماضي عندما بادر الدكتور (حامد ربيع) بنشر سلسلة من المقالات في مجلة الأهرام الاقتصادي، منبهاً من خطورة تلك العلاقات التي تسببت حينها بأزمة في العلاقات الأمريكية المصرية، انتهت إلى صدور قرار بإقالة رئيس تحرير المجلة.
واستطاعت (هيئة المعونة الأمريكية) في هذا المناخ الرسمي المتحسس من رد الفعل الأمريكي من جهة، ومناخ عام قليل الخبرة في إدراك أبعاد هذه التجربة الجديدة من جهة أخرى، واستطاعت تمويل مشروع بحثي، أُنجز بالتعاون بين عدد من الجامعات الأمريكية، والجامعات المصرية، شمل أكثر من 500 دراسة بحثية برصيد 60 مليون دولار، وتناولت كل شيء في مصر من الصناعات الإستراتيجية، مثل: صناعة الحديد، والصلب، مروراً بمناهج التعليم والتربية وموقع الدين فيها، وانتهاء بسياسة مصر الخارجية تجاه الكيان الصهيوني، والتطبيع معها، وقد اشترك في هذا المشروع أكثر من 2007 من الباحثين المصريين، وأكثر من 500 أمريكي، وقد كُتبت جميع هذه الدراسات باللغة الإنجليزية، وحصلت (هيئة المعرفة الأمريكية) على نسخ منها، وعلى جميع المعطيات والأرقام والاستنتاجات التي توصل إليها الباحثون.
ومن الصعوبة أن نفصل بين الجهود الأمريكية والصهيونية في هذا الإطار؛ ففي إحدى الدول العربية التي أبرمت اتفاقيات سلام مع العدو الصهيوني، أقيمت فيها بعد الاتفاقية بسنوات قليلة ستٌّ وثلاثون مؤسّسة علمية أمريكية، وثقافية «صهيونية»، مثّلت وتمثّل مظلّة رسميّة لاختراق الشخصية العربية، والتجسّس على قطاعات المجتمع كافّة.
واللافت للنظر هنا أنّ المؤسّسات الأمريكية والصهيونية تبحث في هذا البلد العربي في «كل الموضوعات وفي كل مكان، وباستقلالية كاملة، أو في إطار بحوث مشتركة ومموّلة، كوّنت «بنوك معلومات متكاملة» إلى الحدّ الذي دفع بعض الباحثين الوطنيين إلى القول: إن «كمية المعلومات التي حصلت عليها هذه المؤسّسات تفوق تماماً ما تعرفه القيادة السياسية، وتفوق ما يعــرفه علماؤنا»، ويؤكّد الـرأي الســابق الإعـلان التالـي الذي نشر في جريدة جامعة أمريكية تحت عنوان: «فرص بحث» «تحتاج وزارة الخارجية لأبحاث عن الوجود الأمريكي في مصر، على ألاّ تتعدّى تكاليف مشروع البحث 25 ألف دولار.. اتصل بوزارة الخارجية - فرع العقود - ص. ب 9244، روزين ستيشن، فيرجينيا 22209».
والحال أن التطبيع أحال العالم العربي إلى ساحة تستبيحها كامل فنون وأنماط الجاسوسية في التاريخ الإنساني الحديث، ففي سنوات المواجهة، كانت هذه العمليات تقتصر تقريباً على «التجسس العسكري»، وبعد «التسوية» بات المجتمع العربي تتقاطع على تضاريسه أنواع أخرى أشد فتكاً، مثل: التجسس الثقافي، والعلمي، والصناعي، والاجتماعي، الذي ينتهي بخدمة الأجندة الأمنية الصهيونية للسيطرة على المنطقة.
التطبيع الثقافي جسر للتجسس
كان التطبيع الثقافي في واقع الحال «تجسساً ثقافياً» للاطلاع على الواقع الثقافي العربي، وعلاقته بالصراع العربي الصهيوني، ووضع سيناريوهات تطويعه على النحو الذي يخدم الوجود الصهيوني في المنطقة ككيان طبيعي، فمن بعد توقيع الاتفاقية الثقافية في مايو 1980 بين القاهرة وتل أبيب، والتي أتاحت للعدو حضوراً كبيراً في الواقع المصري وقراءته، وتفسيره، وتوصيفه استهلت عمليات التجسس الثقافي من المركز الأمريكي بالقاهرة في الفترة ما بين عام 1984-1986، عندما موّل أبحاثاً لليهودي الأمريكي «ليونارد بايندر» عمل مستشاراً لـ (جولدا مائير) إبان حرب عام 1973، وشارك في حرب 1948، وعمل أستاذاً زائراً بالجامعات الأمريكية في مصر، حول احتمالات الثورة الإسلامية في مصر، وتأثير ذلك على مجريات الصراع العربي الصهيوني، ثم عقد صفقات بحثية بين صهاينة ومصريين، مثل: صفقة البروفيسور الصهيوني «ستيفن كوهين»، وعدد من أساتذة علم النفس المصريين في سبتمبر عام 1981، شارك فيها من الجانب المصري د. قدري حفني، د. محمد شعلان، وكان أشهر هذه الأبحاث هو بحث «رؤى الصراع»، الذي اهتم بالجوانب الاجتماعية والنفسية للصراع، ومولته (هيئة المعونة الأمريكية) و(المركز الأكاديمي الإسرائيلي)، بالإضافة إلى عقد العشرات من المؤتمرات العلمية والثقافية، واختراق الاتحادات الطلابية، والجامعات المصرية (وقد شاركت دولة الاحتلال بوفود علمية وثقافية رفيعة في مؤتمر (العلوم والطاقة النووية) الشهير الذي عقد بالإسكندرية عام 1986، وبعده مؤتمر القانون الدولي الذي عقد في جامعة القاهرة)، وفي غضون هذه الهشاشة التي أصابت المشاعر العامة تجاه التطبيع، أنشئ (المركز الأكاديمي الإسرائيلي) بالقاهرة عام 1982، ليمثل أخطر مظاهر الاختراق الصهيوني للعقل المصري في المرحلة التالية لمبادرة القدس عام 1977، والذي اكتشف بداخله خلال عامي 1985، 1986 ثلاث شبكات للتجسس، مكونة من عدد من الأمريكيين والصهاينة واليهود المصريين.
وفي هذا السياق أيضاً وفي إحدى زيارات الدكتور (ساسون صوميخ) أستاذ الأدب العربي بجامعة تل أبيب، قال بعد زيارة له للقاهرة: «لقد ساءني جداً خلال زيارتي لجامعة عين شمس أن أجد مكتباتها مليئة بالكتب التي ألّفها متعصبون كما يزعم ضد اليهود، وهذه الكتب تُباع في المكتبات، وأكشاك الصحف بُحريّة تامة، وإنني لا أعتب على أدباء مصر الذين «يعطفون» على دولة الكيان كتوفيق الحكيم، ونجيب محفوظ، إذا لم يفعلا شيئاً لمنع هذه الكتب، ولكنني أعتب على المؤسسات السياسية في مصر التي تستطيع «بجرّة قلم» أن تمنع كلّ هذه الكتب المناهضة للكيان الصهيوني من التداول.
هذا الاطلاع الذي حصل عليه «صوميح» في إطار تبادل التعاون الثقافي والعلمي، لم يكتشف منه هذه المعلومة فقط، إنما اكتشف أيضاً علاقات القوة داخل المجتمع المصري، وأن الدولة لا زالت أقوى من المجتمع، ومن ثم فهي قادرة على فرض أجندتها عليه، وهو ما يُفهم من آخر فقرة من كلامه المذكور آنفاً. وهو ما حدث فعلاً في أكثر من بلد عربي، حتى في دول لا تربطها علاقات رسمية مع تل أبيب؛ ففي مصر، أوردت جريدة «السياسي» القاهرية في عددها 25/5/1993 بعنوان بارز «اليهود والأمريكان... هل اندسوا في تطوير مناهجنا الدراسية؟» بعض المعلومات البالغة الدلالة إذ نشرت الفقرات المحذوفة من المناهج، مشيرة إلى أن «العملية التطويرية للمناهج التعليمية المصرية» قام بها 29 أستاذاً ومستشاراً أمريكياً، بينهم عدد كبير من اليهود بتمويل من المعونة الأمريكية لمصر، وتطرقت جريدة «السياسي» إلى القول: إن وزارة التعليم المصرية ألغت كتاب «صور من تاريخ مصر الإسلامية» للصف الخامس الابتدائي، وقررت بدلاً عنه كتاب «تاريخ الفراعنة»؛ بغية غرس القومية الفرعونية عوضاً عن الحضارة العربية الإسلامية، كما ألغي كتاب «الدولة الإسلامية العربية وحضارتها» للصف الثاني الثانوي، وتقرر عوضاً عنه كتاب «تاريخ أوروبا في القرون الوسطى» مع تحريف كتب التاريخ العربي، وتاريخ الحضارة الإسلامية.
وتضيف جريدة «السياسي» قائلة: «هذا وقد تم حذف اسم فلسطين من كافة الكتب التاريخية، والجغرافية، والمناهج الدراسية في مصر ليحل محلها اسم «إسرائيل»، وفي مادة التاريخ الصف الثاني الإعدادي تم حذف موضوع الصليبية وموضوع جهاد صلاح الدين الأيوبي والسلطان قطز ضد المغول والصليبيين، وموضوع جامعة الدول العربية، وقضية فلسطين، والصهيونية العالمية، وذلك قبل الامتحان الدراسي بأيام قليلة من عامي 1990-1991» ولقد حدثت تعديلات مشابهة في دول عربية أخرى مثل: الإمارات، الكويت، واليمن، ولبنان.
ولم ينحصر «التجسس الثقافي» عند استجلاء الواقع الثقافي العربي، وكشفه بغية اختراقه، والضغط على المؤسسات الرسمية العربية على التعاون في تغيير العقل العربي على النحو الذي يجعله ذا قابلية، لاحتضان الكيان الصهيوني في أفقه الجغرافي، والسياسي، وإنما يتفرع عنه نوع آخر من التجسس الثقافي يطلق عليه «التجسس الحفري» بحثاً عن أدلة «تهويد» مناطق عربية، والادعاء بحق الكيان الصهيوني فيها، أو إخفاء أدلة قد تنقض المشروع الصهيوني ذاته من أساسه في العالم العربي، في هذا الإطار، يشرح الدكتور مروان أبو خلف الأستاذ في (دائرة التاريخ والآثار) في جامعتي الخليل وبيرزيت غايات «التجسس الحفري» في فلسطين مثلاً قائلاً: «إن للحفر الأثري في فلسطين بدون شك العديد من التوجهات والأهداف التي يمكن تلخيصها في: التوجّه الديني، التوجه السياسي.
أما التوجه الديني فقد كان توجهاً رئيساً لكون علم الآثار الفلسطيني قد قام بشكل أساسي على أساس توراتي للبحث في العهد القديم، بالإضافة إلى أن معظم الباحثين الذين جاؤوا للقيام بحفريات أثرية في فلسطين كانوا علماء آثار توراتيين منهم واران ( War ren ) ، والبرايت(Albright ) ، وسللن( sellin ) ، وغيرهم.
وفيما يتعلق بالتوجه السياسي فإن هذا التوجه قد بدأ منذ فترة طويلة في فلسطين، إلا أنه لم يتبلور بشكل واضح إلا في فترة متأخرة؛ نتيجة للمعطيات السياسية الجديدة، ويركز هذا التوجه على القيام بحفريات أثرية الهدف منها هو العثور على مواد أثرية من شأنها إثبات واقع سياسي معين، يتمثل في تسويغ حق مجموعة من الناس في امتلاك الأرض، بالرجوع إلى الماضي من خلال المخلفات الأثرية.
والواقع أن هذا التجسس الحفري شجع كثيراً من المسئولين الصهاينة و«مافيات الآثار» على المتاجرة بما سطوا عليه وتهريبه إلى خارج فلسطين، كما هو الحال مع (موشي دايان) مثلاً؛ حيث جاء في تقرير «سري جداً» رفعه رئيس الاستخبارات (الموساد) إلى رئيس الوزراء (مناحيم بيغن) بتاريخ 14/3/1983، أي بعد الاجتياح الصهيوني للبنان وتحت عنوان: «تجاوزات الجنرالات (الصهاينة)، وكسبهم غير المشروع» ذكر التقرير أن من أشهر الأسماء اللامعة في مجال التجاوزات، والكسب غير المشروع الجنرال الراحل (موشي دايان) الذي استغل منصبه وزيراً للدفاع، والسمعة التي اكتسبها في حرب حزيران 1967م وبعدها، فقام باستخدام عمال وخبراء الدولة لمساعدته في التنقيب عن الآثار واستخراجها، لا ليقدمها هدية للدولة، أو للمتاحف بل إنه باعها بأسعار خيالية إلى تجار ومهربي الآثار.
والواقع أيضاً أن تهريب هذه الآثار وبيعها إلى خارج فلسطين، والمنطقة العربية يعطي ضمانة بالغة الأهمية للسلطات الصهيونية (ولو كان وجهها تجارياً) باعتبار أن معظم هذه الآثار المكتشفة ينسف المقولات التوراتية من أساسها، وهذا خطر كبير فيما لو بقيت هذه الآثار في الداخل، حتى لا تشكل كارثة على سلطات الاحتلال لو وقعت بأيدي من لا تثق بهم، وعند ذلك تقع الفضيحة؛ لذلك يأتي «تضييعها» في أوروبا وأميركا، أو «إتلافها» عبر عملائها وسماسرتها الدوليين ضمانة أكيدة في ظل حرمان أصحابها الأصليين منها.
كذلك كان حال المكتبات الخاصة بشخصيات عربية فلسطينية وطنية؛ حيث تحتوي على كنز ثمين من الوثائق والمخطوطات والكتب النادرة، سطت عليها سلطات الاحتلال، ونقلتها للجامعة العبرية، فضلاً عن سرقة «الدبكة» الفلسطينية، التي قدمتها فرقة يهودية على مسارح إيران أمام الشاه، هذا، ولم يكن نصيب مصر أقل من نصيب فلسطين في هذا المضمار؛ إذ قام العدو الصهيوني تحت ستار السياحة، والبحث العلمي بالعديد من عمليات التجسس في شكل مسح أثري لمناطق سيناء بالكامل، شمل الآثار الفرعونية والعربية والإسلامية، وكافة ألوان الفنون الشعبية، والحرف البيئية المختلفة، وجُهّز لها متحفان: أحدهما في تل أبيب، والآخر بالقدس، وقد تمت سرقة هذا التراث. ووصل الأمر إلى حد زعم (مناحيم بيغن) أن «تمثال أبو الهول» في مصر هو من صنع أجداده.
ولم تكتف السلطات الصهيونية بالاستيلاء على هذه الفنون فحسب بل سعت وتسعى جاهدة «لتهويد» ما تم كشفه وجمعه منها، مدعية أن هذه الفنون والحرف التي يمارسها بدو سيناء هي فنون يهودية في الأساس، وهذا ما فعلته أيضاً حتى مع الموسيقى الشعبية لبدو سيناء حيث سرقتها، وكذلك أطلقت مسميات يهودية على الأعشاب الطبية التي تُزرع في هذه المناطق. كما قام الصهاينة بجمع العملات الفضية التي تزين الثوب النسائي السينوي في جنوب سيناء، واستبدلوها بوحدات رسمت عليها نجمة داوود السداسية، وتم جمع الأثواب التي تصنعها نساء واحة سيوة؛ نظراً لتمييزها في الشكل الفولكلوري، مع العلم أن الكيان الصهيوني ليس لديه موسيقاه المميزة أو رسمه المتميز، ولا فولكلور شعبي خاص به، وأن كل ما قام به من سلب ونهب في هذا الإطار نسبه إليه وجيره لمصلحته وحسابه.
وفي هذا الإطار نشير أيضاً إلى شبكات «السياح الجواسيس»، والتي تتحول إلى بؤر لتسويق فتيات البغاء المصابات بالإيدز، والدولارات المزورة، وعمليات الاغتيال، والتي تأتي بأسماء مستعارة أحياناً، وتحت سواتر مختلفة أحياناً أخرى، للقيام بـ «مهمات خاصة»، وفي هذا الإطار يقول «دي شليط» مدير عام السياحة السابق، ورئيس هيئة الفنادق الصهيونية: «إن سُيَّاحنا في مصر أفضل للأمن الصهيوني من أي جهاز للإنذار المبكر».
وفي هذا السياق كشفت صحيفة الشعب المصرية في 26/7/1988م أن «ما يزيد على ألف فتاة يهودية مصابة بفيروس الإيدز تم قذفهن في مصر، تحت إشراف الموساد، بعد إقناعهن بأنهن يقمن بعمل «قومي نبيل» ـ يهودياً ـ يتساوى في أهميته مع خوض معركة عسكرية كبرى مع العرب، وأنها مهمة مقدسة، وضرورة لا بد منها لسحق العرب نهائياً في أية معركة قادمة، هذا بالإضافة إلى قيام الموساد بنشر وباء «الإغماء الجماعي» في صعيد مصر بين الإناث؛ بغرض قتل قدرة الإنجاب والخصوبة لديهن، بينما استطاع الموساد نفسه المتسلل عبر لافتات السياحة تنفيذ عمليات تصفية للنخب العلمية المصرية، مثل: عالمي الذرة المصريين: يحيى المشد، وسميرة موسى. فضلاً عن التجسس الزراعي، والصناعي، وغير ذلك من أنماط تجسسية متعددة، يضيق المقام لذكرها، وعرض تفاصيلها تجري سيناريوهاتها تحت مسمى (التطبيع).
منتديات القوميون الجدد