بسم الله الرحمن الرحيم
اعتاد كثير من الصحفيين الغربيين أن يبادروا بسؤال من يلقونه من الدعاة أو المفكرين أو طلبة العلم عن عددٍ من الأحكام الشرعية التي يشيع الاستفسار عنها، يُضمَّن ذلك غالباً في تحقيق أو مقال صحفي حول عددٍ من الموضوعات المقلقة في تلك الأوساط، ولا تخفى طبيعة هذه الأسئلة من قبيل: (حقوق الشذاذ، الحرية الجنسية، الأحكام المتعلقة بالمرأة من الاختلاط والولاية والميراث وغيرها، أحكام الجهاد والولاء والبراء، المعازف، الخ).
لدينا في هذا المسار مادة كبيرة جديرة بالدراسة والتحليل من قبل المتخصصين والمدركين بعمق لواقع التعاطي الغربي لمثل هذه الأحكام لتقويمها وتسدديها.
بعد اطلاعٍ على عددٍ لا بأس به من هذه الأجوبة لاحظتُ أنها تميل إلى الإجابة عن هذه الأسئلة كوجهات نظر شخصية، فيقدم المجيب رأيه الشخصي في هذه القضية فيقول: أنا أرى جواز كذا، وحرمة كذا، وعندي هذا صحيح، وهذا غلط، الخ.
أرى – والعلم عند الله - أن هذه الطريقة غير مستقيمة في التعامل مع توضيح الأحكام الشرعية للآخرين، وأن المسار الأفضل هو الانتقال بالجواب من (وجهة النظر الشخصية) إلى (التوصيف الفقهي) للحكم، فيكون دور المشارك في التحقيق الصحفي أن يشرح موقع هذا الحكم في المنظومة الفقهية لا ان يقدم ترجيحه الشخصي.
فيكون دور المجيب أن يبين هل الحكم قطعي أم ظني في الشريعة، هل هو مجمع عليه أم مختلف فيه؟ إن كان مختلفاً فيه فيشرح اتجاهات الاختلاف ومستنداتها الأساسية ووزن كل اتجاه، وإن كان متفقاً عليه فيشرح وزن قوته وحضوره.
فمثلاً: في موضوع المعازف بدلاً من القول أنا أرى أنه حرام، أو أرى أنه حلال، أو أرى أنه حلال في وضع كذا دون كذا، الأفضل أن يشرح له أن هذه مسألة فقهية حكمها في المذاهب الفقهية هو كذا، ومستندهم في الجملة كذا، وهناك رأي آخر حضوره بنسبة كذا ومستندهم هو كذا.
وأما حين يأتي سؤال حقوق الشذوذ، فيبين أن الشذوذ هو محل اتفاق مذاهب الإسلام كلها، ووزنه هو كذا، ومستنداتهم كذا.
فدور المجيب لا يتجاوز (التوصيف) للمسألة، وشرح واقعها، وتحديد وزنها على الخارطة، هذا في نظري أفضل بكثير من طريقة الإجابة عنها كوجهات نظر شخصية، ففي هذا المسار فوائد عدة:
* تصحيح أفهام الغربيين عن أحكام الإسلام، فلديهم قصور كبير في تصور مفاهيم الإسلام وأصولها ومستنداتها، والإجابات الشخصية تعبر عن اتجاه صاحبها فلا تعمق التصور الصحيح لأحكام الإسلام كمثل التوصيف لها.
* تعطي الوزن الحقيقي لكل مسألة، فمشكلة الإجابات الشخصية أنها تجعل الأحكام كلها في درجة واحدة في العرض الذي يقدم للجمهور فلا فرق بين مصافحة المرأة الأجنبية وبين شرعنة الشذوذ الجنسي، كلاهما يأتي في سياق اختيار أنه فعل محرم!
* أنها تعيد تشكيل الحوار بوجهة إيجابية، فبدلاً من أخذ وضعية الوديع الجالس على كرسي التحقيق يتلقى الأسئلة ويجيب على قدر ما يريد المحقق، يتحول المسار إلى شرح المستندات وتوضيح الأسس وبيان المنطلقات لأحكام الإسلام، ينتقل المسار حينها من موقف دفاع لا يخلو عادة من ضعف وارتباك إلى موقف منطلق أكثر إيضاحاً وإشراقاً.
* أن مقصود السؤال في الحقيقة ليس اكتشاف رأيك الشخصي، بل معرفة أحكام الإسلام ومحاولة فهم القضايا المشكلة فيه، فالإجابة بطريقة التوصيف هي أقرب لتحقيق هذا المقصود من طريقة الإجابة الشخصية، والأولى بمن يشارك في مثل هذه الحوارات أن يستحضر أن المقصود هو تصحيح النظرة المغلوطة عن أحكام الإسلام، وتجليتها، والدفاع عن المسلمين، وليس تقديم موقف إيجابي شخصي.
للأسف أن طريقة الأجوبة الشخصية لا تخلو أحياناً من بعد ذاتي يتعلق بتحسين صورة الشخص نفسه، وهو مقصد صغير جداً لا يليق بمن يجيب عن أحكام الإسلام أن يكون مستحضراً له، خاصة أن تحسين صورة النفس قد تكون أحياناً على حساب تشويه الآخرين، فحين يقدم الشخص نفسه للصحفي الغربي بأنه يحب المعازف ولا يرى بأساً بمخالطة النساء ومتسامح مع الحريات ويحتفل بأعياد الميلاد وينتقد المؤسسات الدينية، فهذه المعلومات في الحقيقة لا تفيد شيئاً في بيان هذه الأحكام وإنما غاية ما فيها تقديم صورة جيدة عند الغربيين عن نفسك، وهذا مقصد شخصي صغير، ومن كان تناوله لأحكام الإسلام يأتي في مثل هذا السياق فهجرته إلى ما هاجر إليه!
* أنها تدفع الحرج الذي قد يلحق بعض الناس فيضطر لتأويل بعض الأحكام أو الاحتيال عليها أو تغيير مسار الحديث، فبدلاً من هذه الغمغمة يكتفي بتوصيف الواقع وبيان الاتجاهات والمستندات كما هي.
هذه بعض المميزات التي أتصور بسببها أن طريقة (التوصيف) هي أفضل بكثير من طريقة الإجابة الشخصية التي تشيع في كثيرٍ من اللقاءات والتحقيقات في الصحف والإعلام الغربي، وهي تشمل حتى الإعلام الموجه للمسلمين.
مؤكداً أهمية الدراسة الفاحصة لهذه اللقاءات من قبل المتخصصين لتقديم المشورة والتقويم لها، حيث لها حضور كبير، وتأثيرها واسع، فلا يصح أن تبقى رهن عفو الخاطر.
والله أعلم.