بعد الفتنة الطائفية الدامية التي أطلت برأسها القبيحة على الوطن ، انطلاقاً من (الخصوص) مروراً بالكاتدرائية بالعباسية ، وغيرها من مدن وقرى مصر ، بعد هذه الفتنة دعونا نذكر القائمين بها أو المستفيدين منها ، داخل وخارج مصر بتاريخنا المصري الحقيقي ، تاريخ الوحدة الوطنية ، تاريخ التسامح الديني والمذهبي ، وهو تاريخ لا يفهمه (أو لنقل يجهله) المتطرفين المسلمين والمسيحيين ، اليوم نقدم قراءة في وثيقتين تاريخيتين تبرزان تلك الوحدة الوطنية والتسامح الراقي ، لعل في نشرهما ما يفيد الوطن الممزق والمتعب والمهدد بالتآمر :
الوثيقة الأولى تبرز عذابات المسيحيين المصريين في عهد الرومان البيزنطيين وكيف أنصفهم الإسلام حين فتح مصر وتصور حال المصريين (الأقباط) في تلك الأيام والتي كان فيها هرقل امبراطوراً على البيزنطيين ، والمقوقس بطريرك ملكاني على مصر ، وبنيامين بطريرك يعقوبي هارب من كرسيه في الأسكندرية ومشرد في بقاع مصر النائية ، ويقدم هذه الصورة أحد أساقفة الكنيسة القبطية : ساويرس بن المقفع ، في مخطوطه الوثائقي النادر والمسمى (سير البيعة المقدسة) . قال - مع غض النظر عن لغته العربية غير المحكمة - نصاً : [وعظم البلايا والضيق الذي أنزلهم على الأرثذكسيين وغواهم لكي يدخلوا معه في أمانته حتى ضل جماعة لا يحصى عددها ، قوم بالعذاب ، وقوم بالهدايا والتشرف ، وقوم بالسؤال ، حتى أن قيرس أسقف بنيقيوس وبقطر أسقف الفيوم وكثير خالفوا الأمانة المستقيمة الأرثذكسية ، ولم يسمعوا قول الأب المغبوط بنيامين فيختفوا مثل غيرهم فصادهم بصنارة ضلالته ، وضلوا بالمجمع الطمث الخلقدونى .
" ثم إن هرقل ظفر بالأب المغبوط مينا أخي الأب بنيامين ، فأنزل عليه بلايا عظيمة ، وأطلق المشاعل بالنار في أجنابه حتى خرج شحم كلاه من جنبيه وسال على الأرض ، وقلعت أضراسه وأسنانه باللكم على الاعتراف المستقيم ، وأمر أن يملأ مزواد رمل ، ويجعل القديس مينا فيه ، وأخرج أكثر من سبع غلوات ، وأنزل في الماء ثلاث دفعات .. وغرقوه .
ثم أنه أقام أساقفة في بلاد مصر كلها إلى أنصنا ، وكان يبلى أهل مصر بأمور صعبة ، وكان كشبه الديب الخاطف يأكل القطيع ولا يشبع ".
" وفى تلك الأيام نظر هرقل مناماً : وكان من يقول له أن أمة تأتى عليك مختونة وتغلبك وتملك الأرض ، فظن أنهم اليهود ، فأمر أن يتعمدوا جميع اليهود والسمرة في جميع الكور الذي سلطانه عليهم ، وبعد أيام يسيرة ثار واحد اسمه محمد ، فرد عباد الأوثان من العربان إلى معرفة الله : أنه واحد ، وأن يشهدوا ويقولوا : إن محمداً رسوله ، وكانت أمة مختونة بالجسد ، غلف القلوب ، ولهم ناموس يصلوا قبلي شرقي إلى موضع يسمى الكعبة ، وملك محمد هذا وصحبه دمشق والشام وعبر الأردن وبين النهرين .. وكان الرب يخذل جنس الروم قدامه لأجل أمانتهم الفاسدة " .
" فكم مات من الناس في التعب الذي كانوا يقاسوه لما تمت العشرة سنين من مملكة المقوقس وهرقل ، وهو يطلب الرسولي الأب بنيامين ، وهو هارب بين يديه من مكان إلى مكان ، وهو في البيع المخفية .
" فأنفذ ملك المسلمين لما ذكروه أصحابه بحال الأب البطريرك بنيامين : أميراً ومعه سرية إلى أرض مصر ، اسم ذلك الأمير عمرو بن العاص ، في سنة ثلاث مائة وسبعة خمسين لدقلطيانوس ، في اليوم الثاني عشرين من بؤونه ، ونزل عسكر الإسلام إلى مصر بقوة عظيمة ومقدمه عمرو الأمير ابن العاص ، وهدم الحصن ، وأحرق المراكب بالنار ، وأذل الروم ، وملك بعض الكورة ، وكانت أمته محبة للبرية ، فأخذوا الجبل إلى أن وصلوا إلى قصر مبنى حجارة بين الصعيد والزيف يسمى بابلون ، فضربوا خيامهم هناك لكي يترتبوا لملاقاة الروم ومحاربتهم .. وبعد قتالهم ثلاث دفعات غلبوا المسلمين .
فلما نظروا رؤساء المدينة هذه الأمور مضوا إلى عمرو ابن العاص الأمير ، وأخذوا منه أماناً على المدينة لكيلا تنهب ، ولذلك مسكوا أيديهم عن الكور ، وأهلكوا عسكر الروم وبطريقهم المسمى أريانوس . ومن سلم منهم هرب ] .
****
* ولنتابع الوثائق التاريخية حتى نتعلم ذلك ، ومن بينها وثيقة ساويرس ابن المقفع عن عذابات المصريين المسيحيين مع الرومان البيزنطيين وكيف أنقذهم الفتح الإسلامي ، نتابع الوثيقة التي لن نتوقف كثيراً أمام لغتها العربية غير المحكمة ذاهبين إلى دلالاتها التاريخية : [ فأما سانوتيوس المؤمن المسيحي فعرف عمرا بسبب الأب المعروف بنيامين ، وأنه هارب خوفاً من الروم فكتب إلى أعمال مصر ، يقول : " الموضع الذي فيه بنيامين رئيس النصارى ، له الهدى والأمان والسلام من الله ، فيحضر ويدبر حال بيعته " ، فلما سمع هذه الأخبار الشجاع بالحقيقة عاد إلى الإسكندرية بفرح بعد ثلاث عشرة سنة ، منها عشرة لهرقل ، وثلاث سنين للمسلمين قبل فتحهم الإسكندرية ، لابس لاكليل الصبر وعظم الجهاد الذي كان ، فلما ظهر للشعب فرحوا جميع المدينة ، وعرفوا سانوتيوس التكس الذي قاله لهم ، وقرر مع الأمير إحضاره ، فمضى وعرف الأمير عمرا بوصوله ، فأمر بإحضاره بكرامة ومحبة ، فلما نظر إليه التفت إلى مقدميه ، وقال لهم : " إن في الكور التي ملكناها إلى الآن لم أشاهد رجلاً لله يشبه هذا الرجل " ، وكان منظره حسن جداً ، ثم التفت إليه وقال له : " جميع بيعك ورجالك اضبطهم ، وإذا ما صليت على حتى أمضى إلى الغرب والخمس مدن ، وأملكها مثل مصر ، وأعود إليك بسرعة ، وكل ما تطلبه منى أفعله لك " .. ثم انصرف من عنده مكرماً .
ولما جلس هذا الروحاني الأب المعترف بنيامين على بيعته بنعمة الرب يسوع المسيح دفعة أخرى جذب إليه أكثر من خجلهم (جعلهم) هرقل مخالفين ، وكان يعيدهم بسكينة ووعظ ويعزيهم،وكثير ممن هرب إلى الغرب والخمس مدن من ذلك الكافر ، لما سمعوا عادوا ونالوا أكليل الاعتراف،وكذلك الأساقفة الذين خالفوا دعاهم ليعودوا إلى الأمانة الأرثذكسية، فمنهم من عاد بدموع غزيرة ، ومنهم من خاف من فضيحة الناس فأقام على كفره إلى أن مات".
" وبعد ذلك سار عمرو من الإسكندرية وعسكره ، وعدى معه المقدم سانوتيوس المحب للمسيح .. وكانت أعمال الأرثذكسيين تنمو يوماً فيوم ، وكانت الشعوب فرحين مثل العجايل الصغار إذا أطلقوا من الرباط على ألبانهم ، فلما دخل عمرو إلى مصر وخرج منها ومضى إلى الغرب أدركته معونة عظيمة " .
لقد نقلنا هذا النص من المخطوط التاريخي لساويرس ابن المقفع ليدلنا على عدة أشياء منها : فظاعة اضطهاد البيزنطيين للمصريين حتى وصفهم الأخيرون بالضلال وفساد الأمانة بل والكفر ، وتمنوا التخلص من نيرهم حتى قصوا الرؤى المبشرة بقدوم المسلمين لتحريرهم ، ووصف المسلمين بمحبة الناس جميعاً ، وعدم نهبهم القرى ، ثم الفرح الذي عم القبط بعودة بطريركهم، ومنحه السلطة ، حتى استطاع أن يعيد من اضطر إلى الانحراف ، وما تلا ذلك من غبطة وفرح ، وأخيراً ملازمة بعض الأقباط لجيش المسلمين وإعانتهم معونة عظيمة.
****
أما الوثيقة الثانية التي تظهر دور الفتح الإسلامي في إنهاء عذابات المسيحيين المصريين من الرومان ، فكتبها المؤرخ المصري ابن عبد الحكم في كتابه (فتوح مصر والمغارب) ، ويعتبر أقدم كتاب مصري يعالج التاريخ المصري والإسلامي عند فتح مصر : " فخرج عمرو بن العاص بالمسلمين حين أمكنهم الخروج ، وخرج معه جماعة من رؤساء القبط ، وقد أصلحوا لهم الطرق ، وأقاموا لهم الجسور والأسواق ، وصارت لهم القبط أعواناً على ما أرادوا من قتال الروم .. ثم فتح الله للمسلمين ، وقتل منهم المسلمون مقتلة عظيمة ، واتبعوهم حتى بلغوا الإسكندرية فتحصن بها الروم ، وكانت عليهم حصون مبنية لا ترام ، حصن دون حصن ، فنزل المسلمون ما بين حلوة إلى قصر فارس إلى ما وراء ذلك ، ومعهم رؤساء القبط يمدونهم بما احتاجوا إليه من الأطعمة والعلوفة " .
ويقول المفكر والمؤرخ المصري المعاصر د. حسين نصار في تحليله لتلك الفترة : " طبيعي بعد هذا كله أن يرضى أقباط مصر عن الحكم الجديد ، وأن يرضى عنهم ، وخاصة أن المسلمين لم يتدخلوا في الأمور الدينية للقبط ، وتركوا التنظيم المالي على ما كان عليه أيام الرومان ، بل كان جل المشرفين عليه إن لم يكن كلهم من القبط ، ويجرى باللغتين القبطية واليونانية " .
وبقى هذا الرضا القرن الهجري الأول كله ، ولكن ما أن بدأ القرن الثاني حتى بدأت سلسلة متصلة من الثورات التي قام بها الأقباط وحدهم أحياناً ، واشترك معهم العرب في بعضها الآخر ، وأكثر هذه الثورات بسبب الخراج لا بسبب الشعور الوطني أو الديني " .
* ترى هل يفهم الجهلة والغلاة من المتطرفين على الجانبين المسيحي والمسلم (حيث كلاهما سواء ، وخطرهما واحد) الذين أشعلوا 24 فتنة طائفية خلال العامين الماضيين فقط ، هذه الوحدة العظيمة ، هل يفهم دعاة الفتنة وأذناب التدخل الخارجي في مصر وسراق ثورتها الأبعاد والدلالات العظيمة لتلك الوثائق التي أوردناها عن أروع وحدة وطنية منذ الفتح الإسلامي لمصر بين المسلمين والمسيحيين ؟ أتمنى ذلك قبل فوات الأوان ، وأتمنى أن يعيدوا قراءة وثيقة عاموس يادلين رئيس الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية السابق التي قال فيها "أنه زرع ألغام من الفتن ستنفجر في مصر عندما يتغير مبارك " ، وهو ما يجرى الآن في البلاد ولكننا لا نقرأ ولا نفهم .. حمى الله مصر وشعب مصر مسلمين ومسيحيين. !!
بقلم: الأستاذ دكتور رفعت سيد أحمد 2013
ولكم التعليق