قديما قال أحد حكماء البادية : إذا أجتمع الصبية للعب ، وانقسموا فريقين أو أكثر، وسمعت أبنك يقول من معي ؟ فهو قائد .. وإذا سمعته يقول أنا مع من ؟ فهو تابع..! .
حديثا قال لي صديقي التارقي بالهاتف: مجيبا على سؤالي حول مكان تواجده في أحد الأيام الحارة .. أنا في " مرميطة ليبيا " يقصد مدينة " غات " ! .
لا أعلم .. هل هو سوء الطالع .. أم عقوق الأبناء ؟ أم هي أسباب تتعلق بالموروث الديني الصوفي ؟ أم نتيجة لعنة سوداء من لعنات سحرة الصحراء .. كتلك التي جاءت في كتابات أبن الجنوب الضال " إبراهيم الكوني " ؟ لا أعلم الأسباب الجوهرية التي جعلت " الجنوب الليبي " في هذا الوضع البائس ! رغم المقومات والمؤملات التي تؤهله للعب دور لا يقل أهمية عن بقية أقاليم الدولة الليبية .
الجنوب الليبي حيث المياه العذبة ، والنهضة الزراعية الواعدة ، وبحيرات النفط ، ومناجم المعادن ، ومنبع الطاقات المتجددة .. والسياحة الأثرية والصحراوية ..
الجنوب الليبي حيث التنوع العرقي ، والتجانس الاجتماعي ، والطيبة والكرم والجود .. أختلط فيه موروث الواحات الخالد .. بنبل أهل الصحراء .. بقيم و مروءة البوادي ..
الجنوب الذي كان يطلق عليه المجاهدين أبان مقاومة الغزو الإيطالي اسم " الأم الحنون " في إشارة إلى غناه بالتمور التي كانت تشكل المصدر الرئيس للتموين آنذاك .
الجنوب الليبي الذي أنجب قامات علمية ، في الفن والأدب والثقافة والسياسة والاجتماع .. وجميع مناحي الحياة .. قامات كانت لها بصماتها المؤثرة في مسيرة تقدم البلد .
أبان الفتنة التي اجتاحت الوطن سنة 2011م ، ساد الهرج والمرج الجنوب الليبي ، كغيره من المناطق الليبية .. وهاج وماج .. ثم ركن للهدوء وآثر الترقب .. إلى أن وصلته أرتال من المليشيات من الشمال " لتحريره " على حد تشدقهم ! .. وعاثوا في الأرض فسادا .. ووصلوا حتى غات والقطرون .. مرورا بوادي الشاطي والوادي الغربي " سبها ــ البوانيس " ووادي الحياة ووادي عتبه ، وتولت مليشيات " الزنتان " السيطرة على الحقول النفطية الواقعة بالقرب من " أوباري " .. وراودت " أسرة سيف النصر " الآمال في إعادة حكم " فزان " .. لكن انتشار السلاح والانفلات الأمني ، وسطوة المليشيات المتمردة على كل شيء فرضت سيطرتها على المشهد .. وفشلت مخططات الساسة والعملاء في تمرير ألاعيبهم .. وعمت الفوضى .
في الشمال حيث مراكز القوة التي تدعمها الأجندات الخارجية .. تمت إعادة تقييم المشهد بعد انقشاع غبار المعارك .. وخلص إلى اعتبار أن المناطق التي تم إخضاعها بالقوة .. تصنف كمناطق مضادة لـ " فبراير" ! وصنف الجنوب الليبي وفقا لذلك التقييم كمعقل من معاقل أنصار " النظام " .. وتنبه ذهاقنة الإسلام السياسي ،وعتاة الليبرالية لذلك .. وعمل كل منهم بمعية مرجعيته الخارجية .. لوضع حد للخطر الذي سيأتي لا محالة من الجنوب .. حيث اعتمدوا تطبيق المبدأ القديم " فرق تسد " ، ألتقط الحالمين والسذج " الطعم " واشتعلت نار الفتنة بين القبائل والمكونات .. ودارت رحى الحرب بين التبو وأهالي تراغن ..وبين التبو وأولاد سليمان ..وبين التبو والتوراق ..وبين أولاد سليمان والقذاذفه .. تهتك النسيج الاجتماعي .. وشلت حركة الحياة وانعدمت الخدمات الصحية والتعليمة .. وتعطلت الدوائر الحكومية .. وتوقفت حركة الطيران وتفشت الجريمة المنظمة .. في ظروف شح المحروقات وغلاء الأسعار وانعدام السيولة المالية .. وبهذا تم " تأمين الجنوب " وأصبح أمراء الحرب في الشمال في مأمن .. وزيادة في التأمين احتفظوا لهم بمواقع هامة تمثلت في القواعد الجوية في كل من " الجفرة ـ تمنهنت ـ الشاطي " للمحافظة على بقاء نار الفتنة مشتعلة .. وتعاملوا مع أهل الجنوب كأنهم " أيتام قصر " يمارسون الوصاية الجائرة عليهم .. ونصبوا أنفسهم ولاة الأمر والنهي وشرطي ليبيا .. ومن يرفع صوته .. تتم استضافته في "فندق جنات" ذي السبعة جماجم ! فيصمت إلى الأبد ..
إن أي حراك وطني "خالص" يقوم به أهل الجنوب لإعادة تنظيم صفوفهم .. ويهدف إلى تولي أهل " فزان" دفة الأمور في مناطقهم ومدنهم وقراهم .. هو حراك مشروع ومحمود ومهم .. ويجب أن يتم العمل على الدفع في اتجاه نجاحه .. والتغاضي عن الهنات البسيطة التي تتخلله .. ومعالجة الأخطاء التي تعيق تقدمه .
ان البحث عن " الشرعية " للعمل تحت غطائها ..في هذا الوقت الذي كثر فيه دعاتها .. هو إهدار للوقت دون طائل ..الدارج حاليا هو انتزاع زمام المبادرة ومباشرة العمل الوطني .. ثم تحري الشرعية إن وجدت .. عملية الكرامة " أنموذجا " .
أهل فزان في حاجة إلى تأجيل الخوض في التفاصيل الجدلية ، إلى مابعد تنظيم الصفوف .. والبدء في البحث عن الموحدات التي من خلالها يتم رتق الفتوق التي طالت النسيج الاجتماعي .. الخطوط العريضة والمبادئ الحاكمة واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار وهي: "وحدة التراب الليبي وسيادته ــ استقلال القرار السياسي الليبي ــ العدالة الاجتماعية والمساواة ــ إطلاق الحريات وتوفير ضماناتها " .. إن الركون إلى الانتظار والترقب ، والتعويل على الآخرين لحل مشاكلنا ، بدعوى الحفاظ على تماسك الوطن ثبت عدم جدواها .. فكل مشغول بهمومه .. مرت خمس سنوات ونحن نمارس السير للخلف بخطى واسعة الأمر الذي ينبئ بعواقب كارثية يمتد تأثيرها ليطال الأجيال القادمة .
بقلم محمد نائل