الشعر النبطي سليل الشعر الجاهلييتفق الشعر الجاهلي مع الشعر النبطي في أنه شعر شعبي ترعرع وازدهر على نفس الرقعة الجغرافية بين أبناء البادية وشعوب الصحراء العربية الذين تغلب عليهم الأمية ويعتمدون على الرواية والمشافهة في حفظ وتداول معارفهم وفنونهم. المناخ الاجتماعي والبيئة الثقافية ومجمل الظروف الإنسانية والطبيعية التي أفرزت الشعر الجاهلي هي نفسها تلك التي أفرزت الشعر النبطي. وبحكم التسلسل التاريخي وطبيعة التغير اللغوي لنا أن نستنتج أن الشعر النبطي هو السليل المباشر والمثال الحي المعاصر لشعر الجاهلية وصدر الإسلام. إلا أننا لن نعدم من يعترض على وجود أي علاقة تاريخية بين الشعر النبطي والشعر العربي القديم لأن الأول لغته عامية والآخر لغته فصيحة. فكيف نفسر هذا الفارق اللغوي؟
كان ثقل الإسلام السياسي والحضاري، وكذلك الروحي والمادي، قد بدأ مع نهاية عهد الخلفاء الراشدين ينسحب من الجزيرة العربية منزاحا جهة أقصى أطرافها الشمالية ليستقر في دمشق أولا لينتقل بعد ذلك إلى بغداد ثم إلى القاهرة وغيرها من العواصم ذات الحضارات العريقة من فارسية ورومانية ومصرية. لقد كانت الغلبة العسكرية والدينية للعرب على هذه الأصقاع لكن التأثيرات الحضارية والفكرية التي تركتها الفتوحات الإسلامية على العرب من جراء احتكاكهم بالحضارات التي سبقتهم كانت بمثابة تحولات جذرية وتطورات راسخة نتج عنها وخلال مدة زمنية ليست طويلة هوة حضارية شاسعة بين عرب هذه الحواضر والأمصار وبين أبناء القبائل البدوية في صحراء الجزيرة العربية الذين أصبحوا بحكم عزلتهم أقرب إلى النموذج الذي يصوره الشعر الجاهلي وإلى الحياة التي يعبر عنها. مع خفوت الروح القبلية في المدن الإسلامية وتبعا لما طرأ على العواصم العربية من تقدم حضاري وتطور مادي وعمراني بدأ الشعر العربي الفصيح يبتعد عن شعر الجاهلية وصدر الأسلام في وظائفه وأغراضه ومواضيعه وهمومه. أصبح الشعر فرعا من مجال أوسع يسمى الأدب. وكلما تطور بناء الحياة المدنية وتعقد تركيبها وزادت متطلباتها كلما تمايزت نشاطاتها وأصبح التخصص والاحتراف ضرورة ملحة. في مثل هذه البيئة التقنية يصبح الأدب فنا قائما بذاته واضح الحدود وترتخي روابطه مع نشاطات المجتمع الأخرى لكنه يصبح أكثر وعيا بذاته. أصبح هناك نقد أدبي مدرسي واع يوجه الشعر ويؤثر فيه. أصبحت هناك علوم ومعارف دينية وفلسفية وطبيعية يستقي منها الشعر مضامينه ويستلهمها مواضيعه. وشيئا فشيئا تبلور الأدب كمؤسسة متخصصة وصارت الاعتبارات الفنية الجمالية الترويحية تتخذ مكانا بارزا قد يحجب أحيانا ما للأدب من وظائف سياسية واجتماعية. كما أن الكتابة دخلت في صميم العمليات الإبداعية والترويجية للأدب. وتبعا لذلك كله بدأ الشعر العربي منذ أوائل العصر العباسي يبتعد عن سلفه القديم في الرؤية والمضمون والوظيفة والأداء والتداول، وإن احتفظ بلغته الفصيحة.
هذا بالنسبة للحواضر والمدن. أما في صحراء الجزيرة العربية فإن الصورة تختلف عن ذلك تماما. لا شك أن الإسلام غير البدو من حيث العقيدة وأحالهم من الوثنية إلى التوحيد ولا يمكن أن نقول عنهم إلا أنهم مسلمون. أما من النواحي الأخرى فلم يمسهم الإسلام إلا مسا خفيفا لم يدم أثره، إذ لم يطل بهم الأمد بعد عصر الراشدين وانتقال السلطة المركزية إلى خارج الجزيرة حتى نكصوا إلى جاهليتهم وإلى ديدنهم في السلب والنهب والغارات يشنونها على بعضهم البعض. يقول الشيخ حمد الجاسر عن هذه الفترة "هذه الأيام أشبه ما تكون بأيام الجاهلية، بل إنها امتداد لتلك الأيام، إذ تعاليم الإسلام الحنيف لم تؤثر في كثير من طبيعة أهل البادية، فهم لم يتقبلوها عن فهم وإدراك، وإنما قبلوها عن إذعان وانقياد." (الهجري 1413، ج1: 50). تتشابه ظروف القبائل البدوية ومعيشتها في الجاهلية التي سبقت الإسلام وفي الجاهلية التي تلته لأن البيئة الصحراوية والموارد الشحيحة والأسس البدائية التي يقوم عليها الاقتصاد وتحدد مناشط الحياة ومجالات كسب الرزق بقيت على حالها لم تتغير. العصبية القبلية والتفاخر والثارات وقيم الفروسية والشجاعة والنخوة والكرم وحماية المستجير والفحولة الكلامية وخوض المعارك الشعرية والخطابية بموازاة المعارك الحربية، كل هذه القيم والمعايير والممارسات التي انطفأ وهجها وبهت أثرها في الحواضر الإسلامية ظلت مستمرة مستعرة في بوادي جزيرة العرب. ظلت هذه القبائل البدوية متمسكة بقيم الجاهلية وسننها وأعرافها واحتفظت بتنظيمها القبلي وطرق معيشتها وكسبها الذي يقوم على الحل والترحال وانتجاع الكلأ والبحث عن الموارد وكل ما يجره ذلك ويترتب عليه من نزاعات ومشاحنات يؤججها الشعراء ويضرمون لهيبها. وظل الشعر بين القبائل البدوية، كما كان في الجاهلية، شعرا شفهيا له مكانته السياسية والاجتماعية ويقوم بدور فعال في التأثير على جماهير الناس وشغل فراغهم وفي تحريك الأحداث وكذلك في أرشفتها وتوثيقها وتداولها وحفظها وتوريثها عبر الأجيال. وظلت القبائل البدوية بشيوخها وفرسانها وشعرائها وعامة الناس فيها تعيش الحالة الشفهية الأمية التي كانت سائدة بينهم منذ العصر الجاهلي ولم يقم فيهم علماء وكانوا بمعزل عن النشاطات العلمية والحركات الفكرية التي كانت تعج بها حواضر العالم الإسلامي.
لعب الشعر النبطي دوراً بارزاً في أحداث الجزيرة السياسية والاجتماعية في العصور التي سبقت توحيد البلاد على يد المغفور له جلالة الملك عبد العزيز. ومعروف أن الجزيرة في ذلك الوقت كانت مقسمة إلى قبائل ومشيخات صغيرة تقوم ثم تزول بسرعة كما هي الحال بالنسبة للدويلات التي نشأت في العصر الجاهلي كدولة الغساسنة والمناذرة وكندة وغيرها. وكانت هذه القبائل والمشيخات في تطاحن فيما بينها. والشبه واضح بين الحالة السياسية والاجتماعية في ذلك الوقت وبينها في العصر الجاهلي. لذا لا يستغرب أن يلعب الشاعر النبطي دوراً سياسياً واجتماعياً لا يقل عن نظيره في العصر الجاهلي. فكما هي الحال في العصر الجاهلي، نجد أن الشعر النبطي في ذلك الوقت لعب دوراً بارزاً في دفع الأحداث وتحريك الناس. وكان لكل قبيلة ولكل إمارة أو بلدة شعراء يذودون عن حماها ويسجلون مفاخرها، وكان لابد للأمير أو شيخ القبيلة نفسه من أن يكون شاعراً مؤثراً، لأنه لم يكن هنالك قوة فعلية تحكم الناس آنذاك عدا الأسلوب البليغ والدليل المقنع ويقولون في أمثالهم "القصيد مشاعيب الرجال" ويسمون الشاعر المهيج "مثوّر" لأنه يحرك الناس بشعره ويدفعهم إلى النهوض والوقوف دون حقوقهم.
ولكي نعي الدور الذي لعبه الشعر في ذلك الوقت، ما علينا إلا أن نقرأ ما جمعه الشيخ عبدالله بن خميس في كتابه أهازيج الحرب أو شعر العرضة أو ما جمعه المرحوم محمد بن أحمد السديري في كتابه أبطال من الصحراء، أو ما جمعه منديل بن محمد الفهيد في سلسلته من آدابنا الشعبية في الجزيرة العربية. كان فرسان الجزيرة وشعراؤها،حتى عهد قريب، يتغنون بكرمهم وشجاعتهم وشهامتهم، ويسجلون مفاخر قبائلهم بقصائد عصماء كان يتداولها الرواة، ويتلقفها الركبان، وتختزنها الذاكرة الشعبية لسنين طويلة. ومن شيوخ القبائل الذين اشتهر شعرهم بين الناس تركي بن صنهات بن حميد من شيوخ عتيبة، ومحمد بن هادي من شيوخ قحطان، وراكان بن فلاح بن حثلين من شيوخ العجمان. ومن أمراء الحاضرة اشتهر تركي بن عبدالله آل سعود وابنه فيصل، كما اشتهر أيضا عبدالله بن رشيد وأخوه عبيد بقوة شعرهما وجودته، ناهيك عن زامل بن سليم والبواريد والهزازنة وغيرهم. وهناك شعراء مثل رميزان بن غشام، وحميدان الشويعر، ومحمد العبدالله العوني طبقت شهرتهم الآفاق لما في شعرهم من نزعات بطولية وسياسية.
وهكذا نجد أن حياة الصحراء بين أبناء البادية ظلت إلى حد بعيد على ما كانت عليه منذ العصور الجاهلية، ولا يزال الطاعنون في السن بيننا إلى الآن يشيرون إلى العصر الذي سبق توحيد الجزيرة على يد الملك عبدالعزيز بأنه "وقت الجاهلية"، "يوم الدنيا ناهب ومنهوب"، "يوم الدنيا هبهب وانهب"، "نجد لمن طالت قناته" وغير ذلك من العبارات التي تصور ما كانت عليه الحال آنذاك من فوضى وعدم استقرار. ولذا لم يختلف شعر البادية طوال العصور الماضية عن شعر الجاهلية في شيء، اللهم إلا اللغة، إذ ما لبثت لغة البادية على مر السنين والدهور أن رضخت للتغيرات اللغوية التي خضعت لها لغة الحاضرة من قبل. وعرب الصحراء -بخلاف عرب الأمصار- لم يكن لديهم مدارس لتعلم قواعد اللغة الفصيحة وقوانين العروض وأوزان الشعر كما قننها علماء اللغة الأوائل. لذلك نجدهم استجابوا لسليقتهم وتمشوا في كلامهم وشعرهم مع التغير الطارئ على لغتهم المحكية، لغة الكلام التي يستخدمونها في تخاطبهم اليومي. بعدما اكتشف علماء اللغة والأدباء في الحواضر الإسلامية القواعد اللغوية والقوانين العروضية التي كانت تحكم الشعر الجاهلي ألزموا أنفسهم بها بشكل صارم وظلوا محافظين عليها ما وسعهم الجهد ومتقيدين بها ولا يسمحون لأحد بأن يحيد عنها. أما شعراء البادية الأميون والجمهور الذي يتوجهون إليه بأشعارهم فإنهم لم يكونوا على علم بجهود علماء اللغة والأدباء ولا على وعي بما اكتشفوه من قواعد وقوانين. وهم وإن ظلوا ينسجون على منوال الأقدمين بحسب ما يمليه التقليد ووفق ما تفرضه العادة وبقدر ما يقتضيه التوارث إلا أنهم، بخلاف إخوانهم في الحواضر، لم يقيدوا أنفسهم بقواعد النحاة وقوانين العروضيين عن وعي وإدراك وتصميم. لذا فإنه بالنسبة لأبناء البادية لم يكن الباب موصدا أمام التغيرات العفوية الطارئة ولا أمام التطور التدريجي ولم يكن هناك في الصحراء النائية المعزولة أي سياج أيديولوجي أو تيارات فكرية أو مؤسسات تعليمية ودينية تقف في وجه أي بوادر للتغيير في لغة الشعر وأوزانه، كما هو عليه الحال في فصحى الحواضر الإسلامية.
وعلى هذه الصورة بدأت لغة الشعر عند البدو رويدا رويدا تتحلل من فصاحتها، ليس على مستوى المفردات بقدر ما هو على مستوى التراكيب النحوية والصرفية والصوتية. إن أهم ما يميز لغة الشعر الجاهلي عن لغة الشعر النبطي هو الإعراب وما يتبع ذلك بالضرورة من تغييرات في نظم الكلام وتقطيع اللفظ ثم ما ينتج عن ذلك من تأثيرات على البنية الإيقاعية التي تتشكل منها بحور الشعر وأوزانه. أما في مفردات اللغة ودلالاتها فإن الشعر النبطي أقرب إلى الشعر الجاهلي من الشعر العربي الفصيح في عصوره المتأخرة. وعلماء العربية يلقون أهمية خاصة على حركات الإعراب دون غيرها من مسائل اللغة. لكننا لو تفحصنا الأمر بموضوعية وأعطينا كل عنصر لغوي ما يستحقه من التقييم، بما في ذلك المفردات والمعاني والدلالات والاستعمالات ومستويات الخطاب وطرق التخاطب، وأحصينا جملة الفروق اللغوية فلربما وجدنا أن لغة الشعر النبطي الشفهي وكلام البدو وطريقتهم في المرافعات القضائية وفي سرد السوالف وفي إلقاء الشعر أقرب إلى لغة الشعر الجاهلي من لغة الأدب المكتوب. وهنا يعن في الذهن سؤال وتراود الخاطر فكرة. أيهما أقرب حقيقة إلى لغة الشعر الجاهلي، الشعر النبطي أم العربي الفصيح؟ لو نهض الشنفرى من الأجداث أو ذو الرمة أو رؤبة بن العجاج هل نستطيع التفاهم معه بلغتنا الفصحى ولغته الجاهلية؟ في تصوري أن عروة بن الورد لو نهض من قبره لاستعذب الحديث مع شليويح العطاوي أو تريحيب بن شري بينما يصعب عليه التفاهم مع أحمد شوقي أو الأخطل الصغير.
ولعل القارئ يوافقني أن التغير اللغوي، أو ما يسميه علماؤنا اللحن، أسهل وأسرع في تسربه إلى لغة الكلام العادي، لغة الحديث اليومية، منه إلى لغة الأدب، وخاصة لغة الشعر بطبيعتها المحافظة. لغة الشعر ولغة الكلام كلاهما متوارث لكن الأولى يتم تناقلها حفظا صما عن طريق الرواية وتتضمن صيغا لفظية وتراكيب لغوية تكاد تكون مجمدة بعدما صقلها الشعراء الأولون وصاغوها في قوالب شعرية وإيقاعية تتماشى مع متطلبات الوزن والقافية. والراوي حينما يؤدي نصا شعريا فإنه يستظهر نصا ثابتا قلما يتغير شكله اللغوي من رواية لأخرى، بخلاف النصوص النثرية التي تتميز بالمرونة وعدم الثبات. والراوية الذي يحرص على نقل القصيدة وروايتها طبق الأصل في كل مرة يلقيها لا يجد حرجا في التصرف في لغة النص النثري المصاحب للقصيدة. ولذلك نجد النساخ غالبا ما يصرفون جهودهم لتدوين القصائد ولا يولون اهتماما يذكر لتدوين النصوص النثرية المصاحبة لها والتي تحكي مناسباتها وظروف نظمها.
وبدون أن ننفي إمكانية التغيير والتجديد، إلا أنه من البداهة أن الشاعر، بخلاف المتكلم، ينظم قصائده وفق قوالب ماثلة في الذهن، وأعني بذلك ما تختزنه ذاكرته من القصائد، بما تتضمنه من مفردات وصور شعرية وأساليب بلاغية متوارثة عبر الأجيال. الصور المجازية والموتيفات الفنية التي يبني الشاعر منها قصيدته تقولب على شكل صيغ لفظية وقوالب لغوية جاهزة للاستعمال، وتكاد تكون مجمدة في طريقة نطقها وعلاقة السواكن فيها بالحركات، لأنها لو اختلت هذه العلاقة لاختلت القيمة الإيقاعية للعبارة. الاحتفاء بحفظ الشعر وروايته وتوارثه وكذلك الشروط الشكلية الصارمة من وزن وقافية وما إلى ذلك تجعل من الشعر بناء متماسكا ونظاما لغويا يصعب اختراقه لأن أي تغيير يطرأ على لغته لا بد وأن يتسرب ويتذبذب حتى يعم الموروث الشعري كله ويقلب المعايير، مثل أحجار الدومينو التي حالما تسقط الأولى منها تبدأ الأخريات بالتدافع والتساقط واحدة بعد الأخرى. لنضرب مثلا على ذلك حركات الإعراب في أواخر الكلمات. حذف حركة الإعراب ينتج عنه تغيير في عدد وتركيب مقاطع الكلمة syllables مما يؤدي بالتالي إلى اختلال قيمتها الوزنية الموسيقية. فأنت لو قلت بيتا عربيا بدون تحريك أواخر الكلمات فيه فقد لا يستقيم وزنه، كذلك قد لا يستقيم وزن البيت النبطي لو قلته بالحركات. هذا يعني أن منظومة الكلمات التي تحصل منها بنطقها الفصيح على بحر من البحور مثل الرمل أو الرجز أو الطويل ربما لن تحصل منها على نفس البحر بنطقها العامي. لكي تحصل على نفس البحر لا بد من إعادة ترتيب الكلمات حتى يستقيم الوزن أو تبديل الكلمات ذاتها أو ربما ابتداع وزن جديد أو غير ذلك من الاحتمالات والحلول. المهم أن تنتظم علاقة السواكن بالحركات بما يتطابق مع القالب الوزني للبحر المطلوب، سواء كان ذلك نتيجة النطق الفصيح أم نتيجة النطق العامي. ومن المرجح أن الشعراء ظلوا لمدة طويلة محتفظين بالحركات حتى بعد أن فقدت وظيفتها الإعرابية وذلك فقط من أجل المحافظة على بنية الكلام الإيقاعية ومن ثم إقامة الوزن. نجد مثلا أن لهجة أهل نجد لا تزال تحتفظ بالتنوين الذي اختفى من اللهجات العربية الأخرى، لكن هذا التنوين دائما يجري على الكسر مهما كان موقع الكلمة من الإعراب، أي أنه فقد قيمته الإعرابية واحتفظ بقيمته الإيقاعية فقط. وحينما نتحدث لاحقا عن أوزان الشعر النبطي وبحوره سوف نرى أن الاختلاف بين بحور الشعر الجاهلي وبحور الشعر النبطي مرده إلى ما جره التغير اللغوي الصرفي والصوتي من تبدل في تقطيع الكلمات واختلاف في توزيع السواكن والحركات.
هذا يعني أن تغيير لغة الشعر يترتب عليه تضحيات فنية وشكلية لا يمكن الإقدام عليها إلا بحذر وتلكؤ. وهذا ينطبق على المضامين مثلما ينطبق على الأشكال. لماذا لم يسارع شعراء النبط، مثلا، إلى ركوب السيارة والطيارة في عصرنا هذا وظلوا يقطعون الدروب والفيافي في خيالهم الشعري ممتطين ظهور "الهجن" و"الجيش" و"الركاب" حتى بعد الاستغناء عن الإبل كوسيلة للتنقل؟ السبب أنهم لم يشأوا التفريط بمفردات وعبارات وصيغ لفظية وتراكيب لغوية وصور شعرية جاهزة تتعلق بالإبل واحتاجوا لبعض الوقت ليوجدوا بدائل تتلاءم مع مستحدثات التكنولوجيا ومستجدات القرن العشرين وتتماشى مع متطلبات اللغة الشعرية وقيود الوزن والقافية. وكلما ازدادت هذه الحصيلة اللغوية الشعرية وتراكمت زحفت الآلة على القصيدة واستبعدت الإبل لتحل محلها في البناء الشعري. ويبدأ هذا الزحف عادة بعقد مقارنات عابرة بين الشيء القديم المألوف وبين المستحدث كأن يقارنوا مثلا بين سرعة الناقة أثناء وصفها وبين سرعة القطار أو السيارة.
وهكذا أمكن للشعر الجاهلي في موطنه الأصلي وعلى أيدي ورثته الشرعيين أن يتكيف مع التغيرات التي كانت تمر بها لغة الكلام اليومي عند البدو وظل بذلك قريبا منها وبالتالي قريبا من جماهير الناس الذين يتخاطبون بها. لغة الشعر الجاهلي ولغة الشعر النبطي هما في واقع الأمر البداية والنهاية أو قطبين للغة أدبية واحدة. إلا أن هذه اللغة تتغير بصورة بطيئة ولكن مستمرة ومواكبة للتغير الطارئ على اللغة المحكية. ومع تراكم التغيرات الطفيفة على مدى الزمن الطويل أصبح الاختلاف واضحاً بين العربية في أطوارها السابقة، أطوار الفصحى، وأطوارها اللاحقة، أطوار العامية.
وعلينا أن لا ننسى في ذات الوقت أن الفصحى المكتوبة هي أيضا بدورها ابتعدت عن لغة الشعر الجاهلي. تعمد النظرية اللسانية التقليدية عندنا إلى إقامة نوع من التضاد بين الفصحى والعامية كما لو كان التغير الوحيد الذي حدث للعربية هو تغيرها من الفصحى إلى العامية. لكن الصورة أكثر تعقيدا وتداخلا من هذه النظرة المبسطة. لو استعرضنا تاريخ الفصحى لوجدناها مرت بعدة مراحل من فصحى الجاهلية وصدر الإسلام إلى فصحى العصر العباسي إلى فصحى السيطرة العثمانية إلى فصحى وقتنا هذا. واللهجات العامية أيضا لها مراحلها وأطوارها، ناهيك عن الاختلافات بينها من موطن لآخر. وحينما انقلب الخطاب اللغوي في بادية الجزيرة العربية من النظام الفصيح إلى العامي فإن التغير اللغوي لم يتوقف عند هذا الحد؛ بل إننا نجد اختلافا في لغة الشعر العامية بين عصر وآخر. لغة أبي حمزة العامري كانت تختلف عن لغة رميزان بن غشام والتي كانت بدورها تختلف عن لغة ابن سبيل. ثم انظر إلى التطور اللغوي الحاصل في أسلوب الشعراء المعاصرين الذين ابتعدت لغتهم ومفرداتهم بمساحات شاسعة عن لغة شعراء النبط التقليديين لدرجة أننا نتردد في إطلاق المسمى "شعر نبطي" على نتاج هؤلاء الشباب.
التفسير التقليدي الذي يقدمه اللغويون العرب لظهور اللحن والعاميات هو أن السبب وراء هذه الظاهرة احتكاك العرب بأجناس وشعوب أخرى تتكلم لغات أعجمية. وقد عبر ابن خلدون عن هذا الرأي في قوله إن العرب "لما جاء الإسلام وفارقوا الحجاز لطلب الملك الذي كان في أيدي الأمم والدول وخالطوا العجم تغيرت تلك الملكة بما ألقى إليها السمع من المخالفات التي للمستعربين. والسمع أبو الملكات اللسانية ففسدت بما ألقي إليها مما يغايرها لجنوحها إليه باعتياد السمع." (ابن خلدون 1988، ج1: 754). ويقول في موضع آخر "ثم فسدت هذه الملكة لمضر بمخالطتهم الأعاجم. وسبب فسادها أن الناشئ من الجيل صار يسمع في العبارة عن المقاصد كيفيات أخرى غير الكيفيات التي كانت للعرب فيعبر بها عن مقصوده لكثرة المخالطين للعرب من غيرهم ويسمع كيفيات العرب أيضا فاختلط عليه الأمر وأخذ من هذه وهذه فاستحدث ملكة وكانت ناقصة عن الأولى. وهذا معنى فساد اللسان العربي." (ابن خلدون 1988، ج1: 765). ولا شك أن عمليات الاحتكاك والتثاقف تلعب دورا هاما في هذه العملية، لكن ينبغي لنا أن لا نغفل حقيقة أخرى في غاية الأهمية مفادها أن اللغة نفسها تدفعها قوة ذاتية وتسيرها آليات داخلية في حركة تطور مستمر وتغير لا يتوقف ما دامت اللغة حية نابضة. إن عدم استيعاب مبدأ التطور في البنية الذهنية عندنا كثيرا ما يقف عائقا أمام فهمنا فهما سليما لحقائق الطبيعة والوجود. ومن خصائص التطور أنه يقود من التجانس والتشابه إلى التشعب والتمايز والاختلاف؛ مثال ذلك ما نشاهده من الاختلاف بين العاميات العربية المنحدرة من أصل واحد هو الأصل الفصيح. ولكن نلاحظ أن هذه العاميات، بما أنها انحدرت من أصل واحد وبما أن خطوط التطور التي مرت بها تكاد تكون متوازية، لم تنفصل عن بعضها البعض وبقيت متقاربة وبينها ما لا يحصى من الخصائص المتماثلة. وقد تتفشى ظاهرة من ظواهر التغير اللغوي في واحدة من هذه العاميات قبل الأخريات. ولكن بما أن تطور هذه العاميات يسير في اتجاهات تكاد تكون متوازية فمن المرجح أن ما تتأثر به لهجة من اللهجات سوف يسري إن عاجلا أو آجلا وبشكل أو بآخر على البقية. وهناك عوامل خارج اللغة ذاتها، اجتماعية وثقافية وسياسية مثل الأمية والتخلف والعزلة، تساعد قوى الدفع الطاردة التي تسير في اتجاه المباعدة بين اللهجات والتفريق بينها لتستقل كل واحدة منها وتصبح لغة قائمة بذاتها. وبالمقابل هناك عوامل تساعد قوى الجذب نحو المركز، عوامل تسير في اتجاه التقريب بين اللهجات مثل التعليم والتواصل وما إلى ذلك. ولا شك أن الروابط التاريخية والثقافية والاحتكاك المكثف بين من يتكلمون اللهجات العربية، وما ينتج عن ذلك من تأثير متبادل، يساعد كثيرا على التقريب بين اللهجات والابقاء على التفاهم المشترك فيما بينها.
إننا هنا نحدد عاملين من أهم عوامل التغير اللغوي. أحدهما التغير عن طريق آليات التغيير الداخلية، أو ما يسمى التطور evolution، والآخر عن طريق التأثر بواسطة الانتشار diffusion والتثاقف acculturation. بناء على ذلك نستطيع القول بأن ما بدأ يطرأ على لغة بدو الصحراء العربية من تفشي اللحن ثم العامية ليس مرده فقط إلى التأثر بما حدث في الأمصار العربية من تغيرات لغوية، لكن التغيرات التي حدثت هناك كان من المحتم لها أن تحدث في البادية نظرا لحتمية التطور، وكان لها أن تحدث بنفس الصيغة التي حدثت فيها هناك نظرا لأن اللهجات العربية تسير في تطورها في خطوط متوازية. لكن لغة أهل نجد كانت أبطأ في التغير نظرا لعزلتها وطبيعتها المحافظة لذلك لم تصلها بعض مظاهر التغير اللغوي إلا بعد أن تفشت في الأقطار الأخرى. ووجود الظاهرة في مكانين مختلفين وفي فترتين متباعدتين لا يعني بالضرورة أن اللاحق جاء متأثرا بالسابق، ربما يكون ذلك كذلك ولكن أيضا ربما يكون السبب عائدا إلى ما يسمى اتجاهات التطور المتوازية parallel development. أي أن احتكاك اللغة البدوية باللهجات العربية الأخرى ربما ساهم في تسريع تغيرها لكنها كانت في ذاتها تختزن من الآليات الداخلية ما يمكنها من التغير تلقائيا وبنفس الاتجاه الذي كانت تسير فيه اللهجات العربية الأخرى. والعامية التي نتحدث عنها ليست في حقيقتها إلا تراكم ظواهر لغوية تدخل في نطاق ما يسميه علماء اللغة عندنا اللحن وتضافرها وتغلغلها في الخطاب اللغوي على مختلف مستوياته لتغير ملامحه وتحوله من النظام الفصيح إلى النظام العامي.
أعلي
مراحل التحول من الفصحى إلى العاميةقلنا إنه بعد انتقال الخلافة الإسلامية إلى دمشق وبغداد، أصبحت الجزيرة العربية مسرحاً للفوضى السياسية وأصبحت في شبه عزلة عن بقية العالم العربي والإسلامي، ولم يعد علماء المسلمين ينظرون إليها كمصدر إشعاع روحي وأدبي كما كانت في السابق، ولم يعد علماء العربية ورواة الشعر قادرين ولا راغبين في شد الرحال إلى هناك، كما كان يفعل أسلافهم، للأخذ عن الأعراب "البوالين على أعقابهم". وإذا ما استثنينا طرق الحج والتجارة والسابلة وبعض الحواضر مثل مكة والمدينة وبعض المدن الساحلية فإن الشمس المحرقة والجفاف وشح الموارد المائية والقفار الموحشة والمفازات المهلكة والغزاة وقطاع الطرق والسباع جعلت اختراق الصحاري والفيافي العربية أمرا متعذرا على غير أهلها. ولكي ندرك هذه المخاطر ما علينا إلا أن نقرأ مغامرات الغربيين في العصور المتأخرة في الصحاري العربية.
تتسم تلك الفترة من تاريخ الجزيرة العربية بالغموض وشحة الوثائق المدونة. ومرحلة انتقال الشعر في بادية الجزيرة العربية من النمط الكلاسيكي إلى النمط النبطي يلفها الغموض نظرا لاتساع الفجوة الزمنية التي تفصل ما بين آخر نماذج وصلتنا من الشعر العربي الكلاسيكي وبين أول نماذج وصلتنا من الشعر النبطي. والواقع أننا مهما أعملنا الفكر واجتهدنا في البحث عن بداية الشعر النبطي فإنه لا سبيل إلى معرفة ذلك معرفة يقينية ولن نصل إلى نتيجة مرضية في ظل الدلائل المتوفرة لدينا حاليا، وسيظل الغموض يلف هذه البداية. والشعر النبطي لا يختلف في ذلك عن الشعر الجاهلي إذ وصلنا كلاهما تاما مستويا بعدما اختفت البدايات في غياهب المجهول وانطمست معالمها.
ولا بد من الالتفات هنا إلى مسألة دقيقة سبق وأن نبه لها الشيخ أبو عبدالرحمن بن عقيل، كعادته في تحسس المسائل الجوهرية وإثارة القضايا الأساسية في موضوع أصل الشعر النبطي وبداياته. أعني ضرورة التفريق بين اللحن في اللغة وبين عامية اللغة التي "تغمرها معنى ومبنى وتركيبا بحيث يتصور العقل منها أدبا عاميا غامرا." (ابن عقيل 1402: 32). والسؤال الذي لا تزال الإجابة عليه في منتهى الصعوبة نظرا لانعدام الأدلة والقرائن هو متى غمرت العامية اللغة وبدأ أعراب الجزيرة الأميون ينظمون شعرهم بلغة لا نتردد ولا نتحرج في إطلاق صفة العامية عليها؛ لغة تخطت مرحلة الفصاحة وتجاوزت ظاهرة اللحن لتصبح عامية غامرة لا تخطئها العين؟ الإجابة على هذه الأسئلة تتطلب منا أن نستعرض واقع الأدب العربي واللغة العربية منذ عصور الفصاحة حتى العصور المتأخرة حينما تفشت العامية وظهر الشعر النبطي.
بينما أحدث المد الإسلامي تغيرا سريعا في اللغة العربية بين أهل الأمصار نتيجة اختلاط العرب بالأجناس الأخرى، ظل عرب البادية يتكلمون اللغة الفصيحة وينظمون الشعر على غرار شعراء الجاهلية لمدة طويلة. ومنهم جمع علماء العربية الأوائل المادة اللغوية التي استنبطوا منها قواعد اللغة العربية الفصحى. ظل هؤلاء الأعراب يتكلمون بلغة فصحى بينما شاعت العاميات بين سكان الأمصار الذين أصبحوا لا يملكون إتقان الفصحى إلا عن طريق الدرس والتحصيل والدربة والمران. ومن المعروف أن عصر الاحتجاج اللغوي والاستشهاد غير المقيد انتهى في حدود منتصف القرن الثاني الهجري. واقتصر علماء اللغة بعد ذلك على أخذ اللغة عن البدو الأقحاح وتوقف الأخذ عن الحضر أو من يطيل الإقامة في الحضر. وكان أبو عمرو بن العلاء يحتج بشعراء الجاهلية وصدر الإسلام لكنه بعد ذلك لا يحتج إلا بشعراء البادية من أمثال رؤبة بن العجاج وذي الرمة. ومن الأقوال المأثورة عنه قوله "ختم الشعر بذي الرمة والرجز برؤبة" وقوله "فتح الشعر بامرئ القيس وختم بذي الرمة (ت 117هـ)" (الجاحظ 1975، ج4: 84). ومات رؤبة في البادية ولما سمع الخليل بموته قال عنه "دفنا الشعر والفصاحة واللغة". أما ذو الرمة فإنه كان بدويا يرعى الإبل ويجيد نعتها ويجيد وصف الصحراء وحياة البادية وقال عنه الفرزدق أنه يركب أعجاز الإبل وينعت الفلوات. لكنه لما طالت إقامته في الحضر بدأت الشكوك تساور العلماء في فصاحته وأخذ عليه الأصمعي أنه طالما أكل المالح والبقل في حوانيت البقالين. وقد تنبه العلماء إلى أن البدوي إذا طال مثواه في الحضر لانت سليقته وهجنت لغته وتشبعت باللحن مثل زيد بن كثوة الذي يقول عنه الجاحظ أنه كان هناك بون بعيد بين لغته يوم قدم البصرة وبينها يوم وفاته. (الجاحظ 1975، ج1: 163). وكان أبو عمر بن العلاء يقول "لم أر بدويا في الحضر إلا فسد لسانه غير رؤبة والفرزدق". ومع نهاية العصر الأموي وبداية العباسي لم يعد علماء اللغة يحتجون بشعراء الحاضرة. ويؤثر عن الأصمعي قوله إن خاتمة الشعراء الفصحاء سليقة هم رؤبة بن العجـاج (ت 145هـ) وابن ميـــادة (ت 149هـ) وحكم الخضري (ت 150هـ) وابن هرمة (ت 176هـ) وقد رآهم أجمعين. (ابن قتيبة 1966-1967، ج2: 753). ومن شعراء البادية المتأخرين المشهود لهم بالفصاحة عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير الشاعر (ت 239هـ) الذي قال عنه المبرد "ختمت الفصاحة في شعر المحدثين بعمارة بن عقيل".
هذه نبذة من أمثلة أخرى كثيرة يمكن إيرادها تبين لنا أن لغة البدو بقيت محافظة على فصاحتها بعد أن تفشى اللحن في لغة الحواضر وتحولت إلى لهجات عامية. لذا نجد علماء اللغة ابتداء من القرن الثاني الهجري لم يعودوا يكتفون بالأخذ عن الشعراء وعن الأعراب الذين يفدون من البادية إلى سوق المربد في البصرة وسوق الكناسة بالكوفة وإنما صاروا يقومون برحلات ميدانية ويشدون الرحال إلى جوف الصحراء بحثا عن البدو الفصحاء لأخذ اللغة عنهم. واستمر هذا التقليد في القرنين الثالث والرابع ثم توقفت بعد ذلك رحلات الطلب وتوقف الأخذ عن البدو وانقطعت الرواية عنهم ولم يعد العلماء يحتجون بكلامهم لتفشي اللحن فيه.
يبدو أن القرن الرابع الهجري يشكل مرحلة حاسمة فيما يتعلق بانتقال لغة الشعر البدوي من الفصيح إلى العامي. استمرت الفصاحة بين أبناء البادية في الجزيرة العربية حتى مطلع هذا القرن حيث نجد أبا علي هارون بن زكريا الهجري الذي يجزم الشيخ حمد الجاسر أنه "عاش في القرن الثالث وفي أول القرن الرابع." (الهجري 1413، ج1: 24) يورد في التعليقات والنوادر أشعارا رواها له أو قالها أبناء البادية الذين احتك بهم في حياته أثناء مروره بنجد وخلال إقامته بالمدينة. يقول الجاسر إن أبا علي الهجري استطاع "أن يجمع ذخيرة طيبة من علم أهل البادية وهو يعيش بينهم لم يغادر بلادهم ولم يتلق شيئا من ذلك العلم المتعلق بهم عن غيرهم." (الهجري 1413، ج1: 13). ويكرر الجاسر هذه الحقيقة ويؤكدها على صفحات أخرى من نفس المصدر (ص ص 33 ، 50-51 ، 56-59 ، 150). وفي مقدمة الجزء الثاني من كتاب التعليقات والنوادر يقول الجاسر إن المؤلف "عني عناية خاصة بتدوين أدب الجزيرة ومعارفها عن معاصريه من أهلها، ولهذا قل -إن لم يكن ندر- ما ينقل عن غيرهم، ووجه عنايته لتدوين أشعار معاصريه ومن قاربهم في الزمن… ويبدو أن الهجري عاش أثناء تأليف كتابه في العقيق بقرب المدينة، حيث كان رؤساء القبائل وشعراؤهم يفدون على أمراء تلك البلدة، فكان يتلقفهم، ويتلقى عنهم، ويسجل ما يملون عليه، ولهذا نجد كتابه يحوي شعر كثير من القبائل التي كانت ذات صلة بالمدينة." (الهجري 1413، ج2: 496-497). وبلغ عدد أبيات القصائد والأراجيز التي تلقاها الهجري مشافهة من أبناء البادية أكثر من سبعة آلاف بيت من الشعر الفصيح. وقد يفيد كثيرا لو نشط أحد الباحثين وتتبع آخر النماذج التي وصلتنا من الشعر العربي القديم الذي جمع من بادية الجزيرة مثل تلك التي جمعها الهجري لتلمس بدايات اللحن فيها مقارنة بما هو أقدم منها، فلربما عثرنا على نوع من العلاقة اللغوية والموضوعية بين هذه النماذج وأقدم النماذج التي لدينا من الشعر النبطي، ولربما ألقت مثل هذه الدراسة بمزيد من الضوء على بداية الشعر النبطي.
وحتى منتصف القرن الرابع كان علماء اللغة لا زالوا يقرون لأهل البادية بالفصاحة. ففي هذه الفترة نجد أن أبا منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت 370هـ) الذي وقع أسيرا في يد القرامطة التقى بأعراب البادية أثناء فترة الأسر ونقل عنهم في معجمه تهذيب اللغة. يقول الأزهري في مقدمة كتابه "وكنت امتحنت بالإسار سنة عارضت القرامطة بالهبير. وكان القوم الذين وقعت في سهمهم عربا عامتهم من هوازن واختلط بهم أصرام من تميم وأسد نشأوا في البادية يتبعون الغيث أيام النجع ويرجعون إلى أعداد المياه في محاضرهم زمان القيظ ويرعون الغنم ويعيشون بألبانها ويتكلمون بطبائعهم البدوية ولا يكاد يوجد في منطقهم لحن أو خطأ فاحش. فبقيت في أسرهم دهرا طويلا وكنا نشتي الدهناء ونرتبع الصمان. واستفدت من محاورتهم ومخاطبة بعضهم بعضا." (الشلقاني 1977: 167). إلا أن شمس الفصاحة عند البدو بدأت بالأفول في نهاية القرن الرابع حيث نجد أن عالم اللغة الشهير عثمان بن جني المتوفى عام 392هـ يقول في كتابه الخصائص "لو فشا في أهل الوبر ما شاع في أهل الحضر من اضطراب الألسنة وخبالها وانتقاص عادة الفصاحة وانتشارها لوجب رفض لغتها وترك تلقي ما يرد عنها وعلى ذلك العمل في وقتنا هذا لأنا لا نكاد نرى بدويا فصيحا وإن نحن آنسنا منه فصاحة في كلامه لم نكد نعدم ما يفسد ذلك ويقدح فيه وينال ويغض منه." (عيد 1976: 42، 153).
ومن النماذج الشعرية التي قيلت في القرن الخامس ويفترض أنها جاءت من البادية تلك التي أوردها أبو الحسن علي بن الحسن بن علي الباخرزي المتوفى سنة 467هـ في القسم الأول من الجزء الأول من كتابه دمية القصر وعصرة أهل العصر تحت عنوان "في محاسن شعراء البدو والحجاز." (الباخرزي 1968، ج1:27-86). إلا أنه على الرغم من هذا العنوان يلاحظ المتتبع لهذه النماذج أن غالبيتها لشعراء متعلمين من الحاضرة، لذا يصعب التأكد مما إذا كانت فصاحتهم فصاحة فطرية أم مكتسبة. ومع ذلك نجد بين هذه النماذج مقطوعات بدوية، وهذه بالذات هي التي نلاحظ فيها بعض مظاهر اللحن مثل قصيدة منسوبة لقيس العامري من ربيعة يقول فيها:
قِفا صاحبي قليلا عليّا // ولا تعجلانِيَ ياصاحبيّا
وعوجا على طلل داثر // لريا وأين من العين ريا
معاهد لم يُبق صرف الزما // ن منها ومنِّيَ إلا شُويّا
وقد أورد الدكتور غسان حسن أحمد الحسن هذه الأبيات وعلق عليها بقوله "في البيت الأول امتدت ياء "علي" بإشباع الفتحة، وتحركت ياء المتكلم في "تعجلاني" بالفتحة حركة ثقيلة. أما في البيت الثالث فقد تحركت ياء المتكلم في "مني" تحركا ثقيلا، إضافة إلى استعمال كلمة "شويّا" بصيغتها العامية المعروفة." (حسن 1990، ج1: 58-59). ومن المقتطفات التي نجدها في دمية القصر مقطوعة لشاعر من اليمامة يدعى أبو محمد علي بن الأزهر بن عمرو بن حسان (الباخرزي 74-76) منها قوله:
أيا بأبي الفوران طَنّبت فيهما // وأرض من الفورين كنت وطيتِ
وماء حللتيه وإن كان آجنا // وروض رعيت العشب فيه رُعيت
فقالت ولمْ أمسيت تطوي بلادنا فقلت أمرتيني غداة نهيت
ومن مظاهر اللحن في هذه الأبيات "وطيت" بتخفيف الهمزة و"حللتيه" و"أمرتيني" بإشباع كسرة التاء وذلك بدلا من "وطئت" و"حللته" و"أمرتني". وأرسل الشاعر محمد بن عصام الأعمى الربعي بأبيات إلى صاحبين له يشكو حاله وهو موثوق بالجامعة، وهي نوع من الأغلال مصنوع من الخشب، منها هذا البيت:
وقل لابن كيسان وقل لابن مطرف // خليلكما بين الحنايا مشبح
ويقول الباخرزي إن قافية القصيدة موقوفة، أي ساكنة، مما يذكرنا بالقصيدة النبطية. كما أن كلمة "الحنايا" في البيت غير فصيحة لكنها ترد كثيرا في الشعر النبطي للإشارة إلى الأعواد المقوسة، كتلك التي تستخدم في صناعة كور البعير والهودج وما شابه ذلك. ويقول الباخرزي عن أم كلثوم المغنية:
حدثني الشريف أبو طالب محمد بن عبدالله الأنصاري، قال: جمعني وإياها الطريق، وهي وافدة على دغفل، فاستنشدتها فأنشدت قصيدة، منها: كأن الرياح الجون غادرن فوقها // من البارح الصيفي بُردا مسهّماقال: فورد في هذه القصيدة بيت مرفوع، وهو: وقلت اسلمي من دار حي تميزت // بهم شُعَب النيات فالقلب مغرماقال: فقلت لها: لحنت.قالت: أولحن هو؟قلت: نعم والله.قالت: فأصلحه بيض الله وجهك. (الباخرزي 1968، ج1: 85-86).إضافة إلى اللحن فإن عبارة "بيض الله وجهك" عبارة عامية.
في تلمسنا لبدايات الشعر النبطي لن نطنب في حشد الشواهد اللغوية التي تدل على تفشي اللحن بين أبناء البادية لأن اللحن ظاهرة تختلف عن ظاهرة العامية، وإن كانت تمهد لها. ولعل الأبيات التي قالها أبو العلاء المعري الذي عمر حتى منتصف القرن الخامس الهجري (363-449) أبلغ بكثير من الشواهد اللغوية لأنها تسجل الانطباع السائد بين العلماء آنذاك بأن عرب البادية فقدوا فصاحتهم ولم تعد سليقتهم تسعفهم ليتحدثوا بالفصحى. يقول أبو العلاء يقارن ما كان عليه الوضع اللغوي في زمن امرئ القيس وما آل إليه في وقته هو:
اين امرؤ القيس والعذارى // إذ مال من تحته الغبيط
استنبط العرب في الموامي // من بعده واستعرب النبيط
هذا الشاهد يسمو فوق الشواهد اللغوية التي تتحدث عن ظواهر لحن محدودة لأنه يلخص الوضع اللغوي العام ويشير إلى مدى تفشي اللحن لدرجة تنقله من مجرد لحن إلى نشوء لهجة عامية. ومما يضفي على هذا الشاهد أهمية خاصة أنه يأتي من نفس الفترة التي بدأت فيها هجرة بني هلال من الجزيرة العربية أو بعيد ذلك؛ كما أن أبا العلاء لم يكن من أهل الأندلس أو المغرب أو مصر وإنما من معرة النعمان الواقعة على الطريق بين حلب ودمشق في بلاد الشام التي كان عرب بني هلال يجوسون خلالها في تلك الفترة. ومن المفترض أن لغة بني هلال كانت فصيحة زمن هجرتهم من نجد مع نهاية القرن الرابع الهجري وبداية الخامس. ولكن في ظل هذه المعطيات النظرية والقرائن التاريخية ليس من المستبعد أن بداية زحف العامية على لغة الشعر البدوي تزامن مع هجرة بني هلال فيما بين القرنين الرابع والخامس الهجريين، أو بعد ذلك بفترة قصيرة.
وفي محاولتنا تحديد نهاية الشعر الفصيح وبداية الشعر النبطي علينا أن نحترس من الخلط بين الفصاحة الفطرية الموروثة بالسليقة وبين الفصاحة المفتعلة. وقد مر بنا أن الأزهري في مقدمة معجمه تهذيب اللغة يشيد بفصاحة الأعراب الذين عاش معهم حينما أسره القرامطة في منتصف القرن الرابع. ولكن يبقى هناك تساؤل مفاده هل فصاحة الشعر الذي قاله أمراء القرامطة وقادتهم والذي نجد نماذج منه في كتاب محمد بن عبدالله آل عبدالقادر تحفة المستفيد بتاريخ الأحساء في القديم والجديد (ص ص 92-96) فصاحة موروثة أم فصاحة مكتسبة بالتعلم والمران؟ تكمن مشروعية هذا التساؤل في أن أمراء القرامطة وقادتهم تبنوا مذهبا يقوم على المحاجة الفقهية والتضلع في العلوم الشرعية وفي أمور الدين والعقيدة، مما يفرض عليهم مستوى معينا من التعليم، كما لا ننسى تغلغل العنصر العجمي، غير العربي، في دولة القرامطة. أما الأخيضريون الذين حكموا اليمامة قبل القرامطة فإننا لا نعثر لهم على أي موروث شعري.\
وتدور الدوائر على القرامطة وتنتقل السلطة إلى أيدي العيونيين الذين امتدت فترة حكمهم إلى شرق الجزيرة العربية من 466 إلى 636هـ، ومؤسس دولتهم هو عبدالله العيوني من مدينة العيون. والشاعر الوحيد الذي يصلنا إنتاجه من عصر العيونيين هو علي بن المقرب العيوني. وابن المقرب شاعر فصيح لكن فصاحته فصاحة رجل العلم المتبحر باللغة العربية وعلومها. يقول الدكتور علي الخضيري عن ثقافة ابن المقرب "وهو متبحر أيضا في اللغة العربية، متمكن من أسرارها ودقائقها ومفرداتها كما يبدو ذلك من الاطلاع على أي قصيدة من قصائده. ولعله قد درس النحو والصرف دراسة مفصلة." (الخضيري 1412: 89). ويورد الخضيري في كتابه علي بن المقرب: حياته وشعره (ص34) بيتا من الشعر الفصيح يفترض أن قائله أعرابي كان يرعى إبله في حمى الفضل الذي تولى إمارة العيونيين بعد موت أبيه عبدالله مؤسس الدولة. والسبب الذي حدا بالأعرابي إلى قول البيت أن صاحبه قال له "ويحك أما تخاف من الأمير فضل بن عبدل على مالك ونفسك وأنت تعلم أن هذا المكان من حماه؟!" فقال الأعرابي مستبعدا معرفة الفضل بذلك:
من يلتقي من نار برد محله // وآخر سودي بعيد مذاهبه
رافعا بذلك عقيرته فسمعه الفضل، فقال: الساعة ياأخا العرب. فبهت الرجل وتناقل الناس هذه الحادثة مثلا لشدة مراقبة الفضل لأحوال مملكته. ولو ثبت بما لا يدع مجالا للشك أن قائل هذا البيت الفصيح هو ذلك الأعرابي الأمي لقام ذلك دليلا على استمرار الفصاحة بين أهل البادية على زمن العيونيين. لكن هذا البيت يرد بنصه مضمنا في قصيدة لابن المقرب يحكي فيها هذه القصة شعرا في عرض مديحه للأمير الفضل. لذا فمن المحتمل جدا أن الأعرابي لم يقل هذا البيت بهذه الصيغة وإنما الأرجح، كما يقول الدكتور الخضيري في تعليقه (ص34)، أن القائل هو ابن المقرب لكن الرواة فيما بعد ضمنوا البيت في القصة وأضافوه لها بعد أن أشار إليها ابن المقرب في قصيدته ظنا منهم أن البيت من كلام الرجل. خلاصة القول، أنه كما سبقت الإشارة، لا تصلنا أي نماذج شعرية من زمن الدولة العيونية، سواء بالفصحى أم بالعامية، عدا ما قاله شعراء متعلمون من أمثال ابن المقرب والثعلبي الشاعر العراقي الذي مدح أبا سنان محمد بن الفضل العيوني.
وتأتي بعد الدولة العيونية في منطقة البحرين (الأحساء) دولة بني عصفور ثم دولة بني جروان. ولا يصلنا من هذه الدول المتتابعة في تلك المنطقة أي موروث شعري حتى قيام الدولة الجبرية، لذا يصعب علينا البت بصورة جازمة ما إذا كانت الفصاحة مستمرة بين البدو في ذلك العهد، لكن الاحتمال الأقوى أن العامية كانت قد تفشت بينهم آنذاك وصار شعراؤهم ينظمون بها. ومما يؤيد هذه الفرضية أن ابن خلدون الذي عاصر إمارات العقيليين التي قامت في شرق الجزيرة بعد زوال الدولة العيونية أورد في مقدمته عدة أسماء على ما نسميه نحن الآن بالشعر النبطي وذلك في قوله "وأهل المشرق من العرب يسمون هذا النوع من الشعر بالبدوي والحوراني والقيسي." فهو لم ينسبه إلى معاصريه من العقيليين بل نسبه إلى القيسيين الذين جاءوا قبلهم، أي إلى العيونيين. ومعلوم أن مؤسس الدولة العيونية، عبدالله العيوني، ينتسب إلى مدينة العيون بالأحساء وينتمي إلى عبدالقيس. وفي غياب النماذج الشعرية فإن هذه النسبة التي أوردها ابن خلدون ربما تقوم دليلا على وجود الشعر النبطي في زمن العيونيين، وربما قبلهم. كما يؤيد هذه الفرضية قصيدة المرأة الحورانية التي أوردها ابن خلدون في مقدمته والقصائد التي وصلتنا منسوبة لأبي حمزة العامري الذي يرجح أنه عاش في النصف الثاني من القرن السابع الهجري والنصف الأول من القرن الثامن.