في البداية يجب أن أنوه إلى أن الحديث عن الصرع ليس ترفًا فكريًّا؛ فالأمر جد خطير عندما يتعلق بصحتنا وجودة حياتنا، وبداية تفكيك وهدم الأفكار والمعتقدات الخاطئة عن شيء ما، لا بد أن يبدأ باستعراض تاريخي لنشأة تلك الأفكار.
وقد أشرت في نهاية مقالي الأول: إلى أن الأمور صارت أفضل، والنظرة الأسطورية للصرع قد بدأت تتغير مع بداية عصر النهضة الأوروبية.
حيث جلب عصر النهضة والتنوير المزيد من المنهج العلمي في التعامل مع المرض. وصار الاتجاه الغالب بين أطباء تلك الحقبة هو دفع المزيد من الآراء العلمية حول المرض وأسبابه، فكان شغلهم الشاغل، هو تحديد آلية معقولة لحدوث النوبات.
كانت البداية مع الطبيب الهولندي بيتروس فوريستس (1522–1597)، الذي أشار إلى أن الأعراض تختلف باختلاف الجزء الذي افترض أنه مسئول عن حدوث النوبة.
بمعنى إنه إذا حدثت النوبة في الجانب الأيمن من الجسم؛ فغالبًا الكبد هو المسئول عن حدوثها.
وإن كانت في الجانب الأيسر؛ فالمشكلة في الطحال وهكذا…
محاولة بعيدة عن الحقيقة نوعًا ما، أضاف عليها الهولندي الأخر جوتفريد (1550-1609)،
أن النوبات هي عرض لمرض أخرى مثل الجدري. في العصر الحديث تبين أن الصرع قد يكون بالفعل عرض لمرض آخر، شرط أن يؤثر هذا المرض في الدماغ بشكل أو بآخر.
لذا فإن رؤية جوتفريد كانت محبطة أيضًا.
تتطور الأمر نسبيًّا على يد الطبيب التشيكي ماركوس ميرسي (1595-1667)، حيث إنه وضع تعريف للصرع بأنه: أي حركة لجزء من الجسم أو الجسم كله، على عكس رغبة وإرادة الإنسان
مصحوبة بتغيرات مزاجية.
وقد رفض أي تفسيرات خرافيه للمرض، وكتب مع الطبيب الهولندي الشهير ليفينيس لمنيس
خطابًا توعويًّا للجماهير حول المرض جاء فيه:
«على الجهلة الاقتناع، أنه ليس هناك أسباب إلهية أو شيطانية للمرض؛ ومن الواضح أن الأمر كله يتعلق بالتغيرات المزاجية، ينبغي على الرجل عند رؤية مريض يمر بالنوبة أن لا يرتعد ولا يخاف،
ويقوم بتقديم يد المساعدة، كما أنه يجب أن نتأنى في الفصل بموت أحدهم بعد نوبة الصرع.
لأننا رأينا في الأيام السابقة بعض ممن وضعوا في التوابيت بعد النوبة مباشرة قد كسروا التوابيت
وعادوا للحياة مرة أخرى». الأمر يبدو فكاهيًّا؛ لكنه عين المأساة عندما نكون نحن أصحاب المشكلة.
قدم الطبيب الفرنسي يوهانس فرلينس تفسيرًا مقبولًا للنوبات بأنها نتيجة مواد كميائية سامة تؤثر في الدماغ. وهذا بالتأكيد من الأسباب التي يقرها أطباء الأعصاب إلى الآن.
حيث قد تنشأ النوبات نتيجة الكحوليات، أو الرصاص، أو أول أكسيد الكربون، وغيرها من المواد.
في ذلك الوقت لاحظ الطبيب وعالم التشريح مارسيلو دوناتيس (1538-1602)، حدوث نوبات صرع غير مكتملة لشخص يعاني من الزهري (مرض ينتقل جنسيًّا، وفي مراحله المتأخرة يصيب الدماغ، ويسبب أعراضًا تشبه الصرع).
أدى تطور علم التشريح، إلى ترسيخ النظرة العلمية للمرض؛ حيث قام العلماء بتشريح أدمغة المصابين بعد وفاتهم. فقد وجد عالم التشريح فيليكس بلاتر ورمًا في الجزء الأمامي لدماغ أحد المصابين. كما ذكر جوناس روديوس أنه وجد ورمًا في بطين الدماغ لمريض مات بعد نوبة صرع شديدة، وكان الورم يضغط على أجزاء مختلفة من الدماغ؛ فتحدث النوبات. وشهد أواخر القرن السابع عشر قفزة نوعية في هذا المجال، حيث قام الطبيب تشارلز ديرلينكورت (1633-1694)، لأول مرة بإحداث التشنجات تجريبيًّا، وذلك بوضع إبرة في البطين الرابع لدماغ كلب؛ فحدثت النوبة.
إلى الآن، فالوضع يبدو بعيدًا عن حقيقة المرض، لكن ما يحسب لعصر النهضة أنه تحرر من سيطرة الرؤى الدينية، وتدخل رجال الدين في تفسير المرض وعلاجه.
وهي خطوة عظيمة لجعل الأمر تحت إمرة العلم التجريبي وفقط؛ مما جعل عقول الأطباء والعلماء
تتحرر من كل خرافة، ولا تعتقد عن المرض إلا ما تراه.
وبتأثير تلك النظرة العلمية وبروز دور المنهج العلمي، فقد نما فهم الصرع بسرعة كبيرة جدًّا،
حيث تم التفريق بين نوبات الصرع المختلفة ومناقشتها: نوبات الصرع الكبير، والصغير «grand mal and petit mal seizures»، والتشنجات الناتجة عن الصرع، ومثيلاتها الناتجة عن أمراض أخرى. كان ذلك على يد الطبيب ويليام كولين (1710 – 1790).
ورغم كل هذه الجهود التي بُذلت في عصر النهضة، إلا أننا نعتبر القرن التاسع عشر
هو البداية الحقيقية لفهم المرض؛ حيث شرع أطباء فرنسيون في نشر الأوراق العلمية، للوصول لحقيقة المرض.
وحدثت الثورة في هذا المجال مع اكتشاف موجات الدماغ المختلفة، وربط الصرع بزيادة الشحنات الكهربائية في القشرة المخية، وتأثيرها في المادة الرمادية.
وقد رسم الأطباء التخطيط الكهربائي للدماغ المصابة بالصرع، وكيف أنه يختلف عن التخطيط الكهربائي للدماغ الطبيعية. وتم اختراع العقاقير المختلفة التي قد تصل إلى ثلاثين دواءً لعلاج الأنواع المختلفة للمرض.
سوف نقدم في مقالنا القادم -وهو نهاية حديثنا عن الصرع- فكرةً مبسطةً عن أنواع الصرع المختلفة،
وطرق العلاج، وكيفية التعامل مع المريض، وكيف يتعامل المريض مع مرضه.
تمنياتي بالصحة والعافية للجميع