ما هو الشيء المسؤول عن درجة الذكاء عند الأطفال؟ ليس فقط درجة الذكاء، ولكن كل ما يتعلق بصحته العقلية بشكل عام. هل هي الجينات التي يستقيها من الوالدين، أم البيئة المحيطة به؟
يحاول الكثيرون البحث عن إجابة لهذا السؤال الهام، عبر العديد من الأبحاث والتجارب، فعلام نحمل عقلية الإنسان؟ جيناته، فنقول إن الأمر خارج إرادته؟ أم بيئته فنقول إن المجتمع مسؤول؟
ليست الجينات
أوليفر جيمس، عالم النفس، تسائل في مقال له بصحيفة الجارديان البريطانية، إن كان الفقراء كذلك نتيجة وجود نوعية أقل كفاءة من الجينات، فهذه فكرة شائعة لدى أبناء الطبقات الثرية والمسيطرة، الذين يُحبون الاعتقاد بأن منصبهم ووضعهم الاجتماعي والاقتصادي، سببه تفوقهم الجيني، بدلًا من حقيقة أن لهم بعض الخلفيات المميزة ليس إلا.
يُلاحظ أن معدلات الأمراض العقلية مُرتفعة بين الفقراء بشكل عام. هُنا قال علماء جينات، إن الجينات تلعب دورًا هامًا في ذلك، ليحضر سؤال هام حول ذلك، وهو: ماذا لو كان هؤلاء العلماء على حق؟ يعني ذلك إذًا، أن منطقًا قاسيًا بلا رحمة، يقول إن الجينات الأقل جودة، ستُنتج أُناسًا فقراء.
لكن في ضوء النتائج التي توصل إليها مشروع الجينوم البشري، فإن هذه الفكرة لم يعد بالإمكان الدفاع عنها بعد الآن. ويقصد بالجينوم البشري كامل المادة الوراثية للإنسان، والمكونة للحمض النووي (DNA). ويحتوي هذا الجينوم على ما بين 20 إلى 25 ألف جين. ومشروع الجينوم البشري فهو مشروع بحثي بدأ رسميًا عام 1990، وأُعلن عن نتائجه عام 2000، ويتعلق بمعرفة كامل ترتيب الجينات البشرية كلها.
وقد ذكر عالم النفس الكبير، كين ريتشاردسون، في مجلة «بيت مهنة علم النفس» المتخصصة، أن الجينات ليست مسؤولة عن مستوى الذكاء أو الأمراض العقلية، ويمكننا التدليل على ذلك، حال تمكنا من تغيير البيئة المحيطة بالطريقة الصحيحة. في هذه الحالة، سنكون قادرين بالفعل على القضاء، ليس فقط على سوء الأداء الأكاديمي والتعليمي وأيضًا الأمراض العقلية، لكننا أيضًا سنتمكن من القضاء على الجريمة، ومشاكل أُخرى كتعاطي المُخدرات.
ومنذ نشرت النتائج المتعلقة بمشروع الجينوم البشري، لاحظ العلماء بعد دراسات كبيرة للمحتوى الجيني عند البشر، أن الجينات لها تأثير كبير على الصفات الجسدية مثل الطول والوزن، وهو ما قد يجعلك تظن أن لهذه الجينات نفس التأثير فيما يتعلق بالأمور النفسية. لكن عالم الجينات والوراثة البريطاني، روبرت بلومين، من جامعة كينجز كوليدج، لم يجد أي جزء من الحمض النووي يمكن أن يكون له تأثير كبير على الاختلافات الواضحة بيننا في علم النفس.
العلماء يطلقون على هذا الأمر، اسم «التوريث المفقود». لكن هناك علماء آخرين يُشددون على أنّ هذا النوع من التوريث، ليس مفقودًا فقط، بل إنّه غير موجود على الإطلاق.
وقد تأكد الأمر بالفعل خلال عام 2011، الذي شهد 115 دراسة تتعلق بالجينات، جميعها لم تتمكن من إيجاد أي أدلة مقنعة على وجود علاقة بين الأمراض والقدرات العقلية وبين الجينات. نفس الأمر تعلق بالدراسات التالية التي حاولت ربط طبيعة الشخصية والذكاء الخاص بالإنسان بالاختلافات الوراثية.
الاختلافات النفسية بين البشر لا علاقة لها بالجينات
ما بين هذا وذاك
في المُقابل، ليس معنى ذلك، أنه لا توجد اختلافات واضحة في الحمض النووي للبشر، موازية للاختلافات الخاصة بعلم النفس لديهم، وأن المسؤولية كلها تأتي على البيئة والمجتمع المحيط. فعلى سبيل المثال، نحن نعرف على وجه اليقين أن ما يحدث في الرحم للجنين يمكن أن يكون له تأثير كبير على مشاكل الطفولة المختلفة، مثل اضطراب نقص الانتباه وزيادة النشاط. ومن الواضح أيضًا أن معظم الأطفال المصابين بمرض التوحد يولدون بتشوهات في المخ.
لكن هناك بعض الأمور التي لا تعتمد كثيرًا على فكرة مشاكل الرحم، وما شابهها، فإذا كان لديك أطفال غير متفوقين في الرياضيات، فإن معرفتك بأن الجينات ليست هي السبب في هذه المشكلة، يرفع من احتمالات وإمكانيات التحسن لديهم، إذا ما هيأت لهم البيئة والظروف الملائمة. فحتى ما يحدث في الرحم، هو تأثير من تأثيرات البيئة المحيطة، وفكرة وجود تشوهات في المخ، ينشأ من وجود مشاكل ما تتعلق بالأم، أو سوء في الحيوانات المنوية للرجل، أو غيرها من المشاكل.
هناك دراسة كلاسيكية في علم النفس، توضح هذا الأمر، إذ أُحضر عدد كبير من الأطفال الذين تتحسن قدراتهم في الرياضيات، وبعد مرور عامين تطورت قدرات هؤلاء الأطفال كثيرًا، وذلك من خلال بث روح الثقة فيهم بشكل دائم. الأمر يتطور بشكل أكبر إذا ما اعتقد الآباء والمعلمون، أن أطفالهم أكثر مرونة وقدرة على التحسن والتطور.
البيئة المحيطة يمكن أن تبعد عنك الأمراض العقلية
فنلندا نموذجًا
من المعروف، أن فنلندا تملك واحدةً من أفضل المستويات التعليمية الخاصة بالدراسة الابتدائية، وقد تصدرت بالفعل المرتبة الأولى عالميًا بوصفهم أكثر الشعوب المتعلمة والأقوى في القراءة والكتابة، ففي الدراسة التي أعلن عنها يوم 11 مارس (آذار) 2016، تفوقت فنلندا على شعوب الأرض في قدرات شعبها التعليمية المميزة. هذه الدراسة كشفت عن أنّه إذا اعتقدنا بأنّ كل طفل لديه القدرة على القيام بعمل جيّد والتفوق فيه، وإذا ما اعتقدنا بوضع الموارد المُناسبة في نظمنا التعليمية، فإنك تستطيع أن تتفوق بأطفالك تعليميًا على أطفال العالم كله. الفنلنديون وصلوا إلى ذلك بالفعل، دون أي وسائل إكراه، أو حتى دون البدء بتعليم الأطفال في سن مُبكرة للغاية.
هناك دراسات مشابهة تثبت نفس الفكرة السابقة، لكن بالنسبة للأمراض والصحة العقلية عند الأطفال. الدراسات أوضحت أنه إذا اعتقد الأطفال أو المتعاملون معهم، بأن الأمر يعود إلى مشكلة وراثية مستعصية، فإنهم لا يتطورون بل يسيرون في الاتجاه العكسي نحو الأسوأ. وقد أوضحت إحدى الدراسات، أن 70% من الأطفال الذين يساء معاملتهم في الصغر، يتحولون إلى آباء يسيئون إلى أبنائهم أيضًا.
من هنا لا بد أن نساعد الأطفال على مكافحة ما يقابلهم من صعوبات، حتى ولو تشابهت مع ما كان يفعله آباؤهم أو أجدادهم. ومن الضروري جدًا كسر هذه الحلقة المفرغة من الاعتقاد، بتأثير الوراثة على أمور ليس لها علاقة بالجينات. وتشير التقارير العلمية إلى أن الأمراض العقلية من الممكن أن تتحسن من خلال الأبوة والأمومة المحبة والمرحة. فغالبية هذه الأمراض تكون نتيجة لسوء المعاملة والحرمان الاجتماعي.
إحدى الدراسات أوضحت أن شخصا ما، كان يعاني من خمسة أنواع أو أكثر من أنواع سوء المعاملة، كانت احتمالات إصابته بانفصام الشخصية «سكيزوفرينيا»، أعلى بمقدار 193 مرة، بالمقارنة بشخص لم يتعرض لأي سوء معاملة. نفس الأمر ينطبق على غالبية الأمراض العقلية الأخرى، وليس انفصام الشخصية فقط. فدراسة أخرى بينت أن ثمانية من أصل 10 أطفال، تم إساءة معاملتهم في الصغر، ظهرت عندهم أمراض عقلية قبل سن الـ18.
ولكم فائق الاحترام