الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد فإن من الملاحظ في الفترة الأخيرة في مجتمعنا مع الانفتاح الثقافي واندماج المجتمعات وتفكك الأسر تزايد عزوف الشباب عن الزواج ولزوم حالة العزوبية وهذا الأمر له مساوئ وآثار سلبية على الفرد والمجتمع فأحببت تسليط الضوء على هذه القضية لعلها توقظ الغافل وتنبه اللاهي وتلفت انتباه المؤسسات المعنية.
بداية أؤكد أن الشارع الحكيم رغب وسن للشباب والفتيات الزواج وشرع الوسائل والأمور التي تعين على تحقيقه قال الله تعالى في بيان حكمة الزواج وفضله: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ(. وثبت في الصحيحين من حديث ابن مسعود قول النبي صلى الله عليه وسلم : (يا معشر الشباب من استطاع الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء). وإنما شرع الله الزواج لأنه يحقق الإستقرار النفسي والأنس والمودة بين الزوجين وينشر المحبة بين أفراد المجتمع ويقوي الأواصر بين الأسر ويزيد في أمة محمد ويحصن الشباب من الفواحش والشهوات ويحقق الأمن الإجتماعي وغير ذلك من الحكم العظيمة.
والزواج من آكد سنن المرسلين قال تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً). فالسنة للمؤمن الزواج وعدم الإعراض عنه والزهد فيه من غير مانع معتبر ولذلك ورد في السنة أن الزواج نصف الدين كما في الحاكم عن أنس مرفوعا: (من رزقه الله امرأة صالحة فقد أعانه على شطر دينه فليتق الله في الشطر الباقي). والزواج شعار أهل العفاف والزهد فيه شعار أهل الفجور.
ولاشك أن في عزوف الشاب عن الزواج واستمراره على العزوبية مفاسد كثيرة من أخطرها تعرضه للفتن والفواحش وانتشار العنوسة وعدم استقراره النفسي ويعيش حالة من الفوضى واللا مسؤولية فتراه يصبح ويمسي وليس له هم إلا البطالة والدعة والجري وراء نزواته واتباع خطوات الشيطان فالإعراض عن الزواج سبب عظيم لفشو المنكرات واختلال الأمن الاجتماعي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض). رواه الترمذي.
ولعزوف الشباب عن الزواج أسباب ودوافع:
الأول: أن يكون المانع من الزواج الزهد والانقطاع عن الدنيا والإقبال على الآخرة وتعبد لله بذلك فمن فعل ذلك فقد أخطأ وخالف سنة النبي صلى الله عليه وسلم وهذا من رهبانية النصارى ولا رهبانية في الإسلام وهو من طريقة الصوفية الخارجين عن منهج السنة وفي الصحيحين قال أنس بن مالك: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فلما أخبروا كأنهم تقالوها فقالوا وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر قال أحدهم أما أنا فإني أصلي الليل أبدا وقال آخر أنا أصوم الدهر ولا أفطر وقال آخر أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال أنتم الذين قلتم كذا وكذا أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني(. ولا حجة لما يروجه بعض الناس من ذكر العلماء الذين لم يتزوجوا لأن السنة مقدمة على قول كل أحد ولا حجة في أفعال الناس ولا تعارض السنة بقول أو فعل أحد وكل له عذره وظروفه الخاصة به ونعتذر عنهم ونحسن الظن بهم وترك الزواج للتخلي للعبادة مسلك أحدث زمن التابعين وهو مخالف لآثار الصحابة رضي الله عنهم قال ابن مسعود رضي الله عنه : (لو لم يبق من أجلي إلا عشرة أيام وأعلم أني أموت في آخرها يوما ولي طول النكاح فيهن لتزوجت مخافة الفتنة). وقال ابن عباس لسعيد بن جبير) : تزوج فإن خير هذه الأمة أكثرها نساء). وقال أحمد بن حنبل : (من دعاك إلى غير التزويج فقد دعاك إلى غير الإسلام ولو تزوج بشر كان قد تم أمره) .
الثاني: أن يكون المانع عن الزواج مرض عضوي أو داء نفسي يمنع من الرغبة في الزواج فهذا معذور في ترك الزواج لكن ينبغي له أن يسعي في إزالة هذا العائق على حسب استطاعته لأن الشارع أرشد إلى التداوي وتعاطي العلاج لرفع المرض أو تخفيفه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم
تداووا يا عباد الله فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء إلا داء واحدا الهرم). رواه أحمد. والأخذ بالأسباب من كمال التوكل على الله. وإذا ترك المرض في الشباب بلا علاج استفحل وكانت نتائجه سيئة في الكبر.
الثالث: أن يكون المرء خلق بلا شهوة ولا رغبة في النساء جبلة من الله فلا يطرأ عليه هذا الأمر ولا يتوق للنساء مطلقا فهذا معذور أيضا وقد اختلف الفقهاء في حكم الزواج بالنسبة له فذهب بعضهم أنه مستحب لعموم التصوص وذهب بعضهم أن الأولى في حقه ترك الزواج والأقرب أن الزواج مباح في حقه ولا حرج عليه في تركه ولا يؤاخذ شرعا لأن مصالح الزواج منتفية في حقه وقد يمنعه من الإشتغال بما هو أفضل منه. وهذا العذر قليل في الرجال ومن ابتلي بذلك ينبغي له أن يقبل على العلوم النافعة والأعمال الصالحة ويشغل فراغه بمعالي الأمور.
الرابع: أن يكون المانع الفقر وقلة ذات البد بحيث لا يستطيع دفع تكاليف الزواج من مهر وسكن ونفقة فهذا معذور وقد أرشد الله عز وجل إلى الصبر والتعفف عن الحرام حتى يصلح الحال قال تعالى: (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيهِمْ اللَّه مِنْ فَضْله). وينبغي لمن كانت هذه حاله أن يشتغل بالعبادة من صوم وغيره كما أرشد النبي صلى الله عليه وسلم لتضعف شهوته ويعظم تعلقه بالآخرة ليعينه ذلك عن التورع عن تعاطي أسباب الشهوات حتى لا يقع في الفواحش. وينبغي له أن يبتعد عن المؤثرات التي تهيج شهوته وتزين له الحرام من صحبة الفساق والنظر للحرام والسفر لأماكن الفساد ويشتغل بما ينفعه من برامج ومناشط مباحة تسليه وتروح عنه وتصرف عنه الحرام.
الخامس: أن بعض الشباب عنده مصدر رزق ويستطيع على ابتداء الزواج ولكن قد يشق عليه تكاليف النفقة خاصة المسكن في ظروف أزمة السكن ويتعلل عن ترك الزواج بهذا السبب في الوقت الذي ينفق ماله على الكماليات والسفر فهذا يعيش في وهم وغير صادق مع نفسه ولو كان صادقا لأعانه الله كما وعد الله بذلك كما في سنن الترمذي قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة حق على الله عونهم المجاهد في سبيل الله والمكاتب الذي يريد الأداء والناكح الذي يريد العفاف(. فمن صدق في إرادة العفاف أعانه الله على كلفة الزواج وسخر له الأسباب ويسر له الطرق فينبغي له أن يعمل بالحزم ويجاهد نفسه ويعرض عن اللهو والكماليات ويدخر قيمة المهر وتكاليف الزواج لبضع سنوات ثم يقدم ويتوكل على الله ولا يضيع عمره في الأوهام والأماني ولذلك قال الإمام أحمد فيمن يمكنه الزواج: (ينبغي للرجل أن يتزوج فإن كان عنده ما ينفق أنفق وإن لم يكن عنده صبر). والزواج سبب للغنى قال تعالى: (إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ). وينبغي له أن يحسن التوكل على الله ويعظم الرجاء فيه قال أبو بكر رضي الله عنه: (أطيعوا الله فيما أمركم به من النكاح ينجز لكم ما وعدكم من الغنى). وقال ابن مسعود رضي الله عنه: (التمسوا الغنى في النكاح). ورزقه ورزق عياله على الله الذي تكفل برزق خلقه ولذلك زوج النبي صلى الله عليه وسلم الموهوبة من بعض أصحابه لم يقدر على خاتم حديد وليس له إلا إزار واحد وقد رضيت بذلك كما في صحيح البخاري فإذا وجد الإنسان المرأة القنوع التي ترغب في الستر ولا تتطلع لكثرة المال فليتزوج بها وسيفتح له أبوب الرزق بإذن الله ولا يخطب المرأة المتطلعة للمظاهر الكذابة وتشترط وضع مادي مرتفع وليكن صريحا في خطبته مع أسرتها ليكون زواجه على بصيرة ويأمن المشاكل في المستقبل. وهذا العذر كثير في أحوال الشباب وينبغي على أعيان المجتمع والمؤسسات المتخصصة وكبار التجار أن يساهموا في حل هذه المشكلة ويوجدوا حلول جذرية من السعي في تقنين تخفيف المهور وتيسير الأفراح والمساكن والقروض الميسرة للمقبلين على الزواج وكثير من الشباب من الطبقة المتوسطة يأنف من الدخول في برامج الزواج التي خصصت لطبقة الفقراء وللأسف لا تزال المشكلة قائمة.
السادس: أن يكون المانع من الزواج العلاقات المحرمة والسير في طريق الفواحش والعياذ بالله فترى الرجل ما أظرفه وما أعقله وما أجمله قدرته المالية حسنة وليس فيه مانع يمنع من الزواج فتتسائل ماذا يمنعه من إعفاف نفسه وقد تجاوز الثلاثين ثم يتبين لك أنه واقع في بحر الرذيلة فهذا قد سلك سبيل الشيطان وأضاع شبابه وأفسد ماله وأفنى عمره في لذة عابرة وإثم مكتوب وحسرة دائمة وحين يبلغ الكبر سيعض أصابع الندم إذا صار عالة على أقاربه وسيفوته خير كثير من أعظم النعم نعمة الولد بر في الدنيا وثواب في الآخرة وقد ذم السلف هذه الحال وحذروا أشد التحذير قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأبي الزوائد: (ما يمنعك عن النكاح إلا عجز أو فجور). وقد ورد التحذير عن مقارفة الزنا وورد الوعيد الشديد وأنه من الكبائر قال تعالى: (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا(.وقال الإمام أحمد بن حنبل: (ولا أعلم بعد قتل النفس ذنبا أعظم من الزنا). وكذلك من استبدل الزواج بتفريغ شهوته في الإستمناء وقع في الحرام وأضاع قوته وشبابه في سراب وقد استدل الإمام الشافعي بقوله تعالى: (فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ). على تحريم الاستمناء باليد. ومن ترك الزواج بلا عذر وهو يخشى على نفسه الوقوع في الزنا فهو آثم ومتعرض للوعيد لأن الزواج في حقه واجب قال ابن قدامة: (والناس في النكاح على ثلاثة أضرب منهم من يخاف على نفسه الوقوع في المحظور إن ترك النكاح فهذا يجب عليه النكاح في قول عامة الفقهاء لأنه يلزمه إعفاف نفسه وصونها عن الحرام وطريقه النكاح(. وقد عظمت فتنة النساء في هذا الزمان ومما شجع الشباب على هذا السلوك ضعف الإيمان وسهولة الحرام فيقضي الشاب وطره بلا التزام بأي مسؤولية وغياب الأنظمة الرادعة وهذه الحال كثيرة الوقوع عند الشباب هداهم الله وردهم إلى ساحة الفضيلة وسترهم الله بستره.
السابع: أن يكون المانع رغبته في الحرية وتخليه عن المسؤولية بلا عذر معتبر بحيث يريد أن يكون حرا في حله وترحاله طيلة حياته لا يرتبط بزوجة ولا ولد وليس مطالب بأي واجب مالي أو اجتماعي يقضي وقته بين العمل والأنس والراحة مع الأصحاب في الاستراحات والرحلات والسفريات وربما تظاهر ببعض الأعذار الواهية المختلقة فهذه حال مذمومة ووالله إنها لحياة البطالين بلا فائدة ولا هدف وعدم الشعور بالمسؤولية وضعف في البصيرة ومظنة للتهمة ونقد المجتمع وإن سلم من الوقوع في الحرام إلا انها حياة تافهة ومخالفة للفطرة السوية والسنة الصحيحة وأقوال الصحابة ومقاصد الشريعة ومهما اشتغل بوسائل اللهو والترفيه فلن يجد الراحة والطمأنينة والسعادة النفسية إلا بالزواج الذي وصفه الله بالسكن والمودة والرحمة كما قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً). وسيندم كثيرا حين يتفرق عنه الأصحاب ويفقد الأحباب وتقتله الوحدة في مشيبه ويحرم الولد وينقطع ذكره ويكون عالة حال كبره وضعفه وقال عمر رضي الله عنه: (إني لأقشعر من الشاب ليست له امرأة ولو أعلم أنه ليس عيش من الدنيا إلا ثلاثة أيام لأحببت أن أتزوج فيهن). وقال عمرو بن دينار: (أراد عبد الله بن عمر ألا يتزوج بعد النبي صلى الله عليه وسلم فقالت حفصة أي أخي تزوج فإن ولد لك فمات كان لك فرطاً وإن بقي دعا لك بخير). وقال الحسن: (قال معاذ في مرضه الذي مات فيه : زوجوني إني أكره أن ألقى الله عزبا).
الثامن: أن يكون المانع من الزواج أفكار تسيطر على ثقافة الشاب كأن يقول لن أتزوج حتى أكون ثروة أو حتى أنال منصب مرموق وأحقق لي مكانة أو لابد من تكوين علاقة حب بشريكة حياتي قبل الزواج ليكون الزواج ناجحا أو يشترط شروط تعجيزية في الزوجة أو يغلب عليه سوء الظن ببنات المسلمين ويعتقد صعوبة وجود العفيفة أو خوفا من الوقوع في مشاكل أو الوقوع في الفقر ونحو هذه من العوائق وكل هذه الأفكار مجرد أوهام من تلبيس الشيطان لا تنسجم مع روح الإسلام وهي دخيلة علينا ومخاطرة وسير في طريق غير مضمون والعمر يمضي وتفوت الفرص وكم وكم من نادم على فوات الشباب وضياع السنين وحين يستيقظ الشاب فلن يجد غالبا فتاة مميزة تقبل به وسيضطر للقبول بأي امرأة ليلحق بالركب وقد لا يستيقظ فتكون النتيجة بائسة ولو استمع لصوت العقل والتجربة من والديه لأفلح وكان النجاح حليفه. أما من كانت لديه ظروف حقيقية تمنع من الزواج وهو عازم عليه عند زوالها كطبيعة عمله أو ابتعاثه للدراسة أو كثرة سفره للتجارة أو انشغاله بعلاج والديه ونحو ذلك من الظروف الشاغلة فهذا معذور لأنه لا يكلف الله نفسا إلا وسعها وعليه يحمل تأخير بعض أئمة السنة تأخير الزواج لانشغالهم بالرحلة في طلب الحديث.
وينبغي للوالد والأسرة أن يحثوا ابنهم الشاب على الزواج في مقتبل شبابه ويعينوه على تكاليف الزواج المادية والمعنوية على حسب استطاعتهم وإن كان الولد فقيرا محتاجا للزواج والوالد غنيا وجب عليه شرعا التكفل بتزويج ولده لإن الإعفاف من جنس الحوائج الضرورية كالطعام واللباس والسكنى قال ابن قدامة: (على الأب إعفاف ابنه إذا كانت عليه نفقته وكان محتاجا إلى إعفافه). قال عمر رضي الله عنه: (زوجوا أولادكم إذا بلغوا ولا تحملوا آثامهم). وقال قتادة: (كان يقال إذا بلغ الغلام فلم يزوجه أبوه فأصاب فاحشة أثم الأب). وتزويج الوالد لولده من أعظم القربات لأنه نفع متعدي وإعفاف عن الحرام وتكوين أسرة مسلمة وتفريج هم عظيم على الولد وإدخال سرور على الزوجين. وإذا ترك الشاب بلا زواج في مقتبل عمره حتى يكبر ويقارب الأربعين صعب غالبا إقناعه بالزواج وانصرفت همته عن الزواج وتكاسل عن حمل المسؤولية.