ليبيا على مفترق طرق .. بقلم الكاتب عامر راشد
الموجة الجديدة والأعنف من الاقتتال الدامي والمتشعب في ليبيا، وتداعي الحكومة والمؤسسات السيادية، تضع ليبيا ما بعد القذافي أمام مفترق طريق تصحيح المسار السياسي أو التشظي.
ليبيا اليوم، بعد إزاحة نظام حكم الزعيم الليبي السابق معمر القذافي، ضحية فشل المرحلة الانتقالية بتراكم أخطاء البرلمان والحكومات المتعاقبة، والإخفاق في الوصول إلى توافق وطني واستعادة هيبة الدولة ومؤسساتها والأمن والاستقرار، ووقف عبث الميليشيات القبلية والجهوية والإسلامية الراديكالية المتطرفة، التي تعمل وفق أجندات خاصة تمزق وحدة البلاد، أرضاً وشعباً، وتبدد الثروات الوطنية، وتعطل عجلة المسار الديمقراطي وبناء المؤسسات للانتقال إلى مرحلة التداول السلمي للسلطة.
صورة ربما تلخص مجمل المشهد السياسي والأمني الليبي الحالي بانقساماته وعثراته وإخفاقاته، لكنها تبخس من التضحيات التي قدمها الشعب الليبي، ومن الصور المشرقة التي سطرها هذا الشعب من خلال مشاركته في عمليات الاقتراع بكثافة، وما أبداه من وعي حاز على احترام العالم وتقديره، لاسيما النساء والشباب بالحضور الطاغي في الانتخابات والحراك الشعبي الداعي لتصويب الأخطاء، وهاتان الفئتان هما من تدفعان اليوم الجزء الأكبر من فاتورة العنف والدم.
المؤشر الأول على انسداد أفق العملية السياسية الانتقالية تمثل باستبعاد تحالف "القوى الوطنية" بزعامة محمود جبريل، رغم تقدمه في أول انتخابات جرت في ليبيا منذ خمسين عاماً، يوليو/ تموز 2012، ورفض جماعات الإسلام السياسي الليبية لدعوات تشكيل حكومة ائتلاف وطني موسع.
المؤشر الثاني، وقد يكون الأخطر، صدور "قانون العزل السياسي"، في نهاية أيار/مايو 2013، الذي قضى بمنع كل من تولى منصباً كبيراً في عهد الراحل معمر القذافي من المشاركة في الحكومة بغض النظر عن دوره في الإطاحة بالحكم السابق، واستقالة رئيس "المؤتمر الوطني العام الليبي"، محمد المقريف، ليصبح أول ضحايا الصف الأول لهذا القانون المثير للجدل بحرمانه ليبيا من حاجتها الماسة، في المرحلة الانتقالية وبناء الدولة الجديدة، إلى كفاءات سياسية وخبرات تكنوقراطية مشهود لها بنزاهتها ومهنيتها ومعارضتها لنظام القذافي.
جانب الخطورة في هذا المؤشر أن صدور (قانون العزل) تم إقراره تحت ضغط عناصر ميليشيات مسلحة حاصرت مقر "المجلس الوطني العام" ووزارات العدل والداخلية والخارجية، للدفع باتجاه سن (القانون) وقوانين أخرى تخدم أجندات القوى التي تقف وراءها، للاستحواذ على السلطة باستغلال الفراغ والاضطراب السياسي والأمني المتواصل منذ سقوط نظام حكم القذافي، على حساب بناء مؤسسات دولة دستورية تقف على مسافة واحدة من الجميع، وتلجم حالة الانفلات الأمني، وتنظم الحقوق والحياة السياسية والتداول السلمي للسلطة.
وكشف ذلك عن استفحال الصراع بين التيارات السياسية الرئيسية بأجنداتها المتضاربة، وتجاربها الغضة وافتقارها لقواعد شعبية مسيسة، وكونها بطابعها الغالب أطراً جهوية أو عقائدية تتكئ على ميلشيات مسلحة تابعة لها، تشكل رقماً صعباً يفرض نفسه على المعادلة السياسية، لإخفاق السلطات الليبية في تشكيل جيش وطني وأجهزة أمنية موحدة في مرحلة ما بعد القذافي.
وكان مقدراً لما يسمى بـ(قانون العزل) أن يجر البلاد إلى توترات اجتماعية عميقة تزعزع الاستقرار والأمن، جراء إقصاء حوالي نصف مليون ليبي عن العمل في الإدارات والمؤسسات الحكومية، وهو ما سيزيد من الدعوات الجهوية والمناطقية والإثنية- العرقية.
المؤشر الثالث، من حيث تراكم الأخطاء والدلالة على انسداد الأفق السياسي والمعالجات غير الصائبة، قرار "المجلس الوطني الليبي"، في نهاية كانون الأول/ديسمبر 2013، بالتمديد لنفسه لمدة عام، مما أدى إلى انطلاق حراك شعبي واسع ومعارض للتمديد، وخلق أزمة سياسية حادة بين مكونات المجلس، بوضعه مستقبل العملية السياسية- الدستورية في دائرة ضبابية، لم يخرجها منها تراجع المجلس عن قرار التمديد وإجراء الانتخابات في حزيران/يونيو الماضي.
المؤشر الرابع على دخول البلاد في حالة انهيار المؤسسات الأمنية الضعيفة، الإعلان في شباط/فبراير عن تحرك معارض بقيادة اللواء المتقاعد خليفة حفتر، وإطلاقه لما أسماه بـ"عملية الكرامة"، في 16 أيار/مايو 2014، بهدف ما وصفه حفتر بـ"تطهير ليبيا من الإرهاب والعصابات والخارجين عن القانون والالتزام بالعملية الديمقراطية، ووقف الاغتيالات خصوصاً التي تستهدف الجيش والشرطة". والتفاف العديد من قادة وجنود الجيش الليبي حول حفتر، وتأييد صف واسع من النخب السياسية والحراك الشعبي، يرى في أن غياب الدولة، وتناقضات الحالة الليبية بعد الحراك الشعبي المعارض في (17فبراير)، وفَّر للمليشيات القبلية والجهوية وللجماعات المتطرفة مرتعاً لتقوية نفوذها، وتحويل البلاد إلى بؤرة عدم استقرار، تهدِّد مستقبل ليبيا وتؤثر على أمن دول الجوار والعلاقات معها.
وباندلاع المواجهات الأخيرة والأشرس، بين الجيش الليبي والميليشيات القبلية والجهوية في طرابلس، وبين قوات اللواء حفتر وميليشيات إسلامية متطرفة في بنغازي، عمودها الفقري "أنصار الشريعة"، إن المواجهات العسكرية الدائرة دليل على أن ليبيا مازالت تئن تحت ثقل انقسام كبير بين من يدفعون نحو الاستمرار فوضى السلاح وصراع الميليشيات وقادة الأقاليم والنخب السياسية الجديدة الحاكمة بعد ثورة (17 فبراير)، وبين من هم مع إعادة بناء جيش وطني قادر ومؤسسات دولة فشلت الهيئات الانتقالية الحالية في انجازها.
ولم يعد خافياً على أحد أن الجماعات الإسلامية المتشددة هي اللاعب الرئيس خلف ستار الأزمات، بدعم من جهات خارجية، وتمسك بيديها ورقة الميلشيات المسلحة، لتقوية نفوذها في السلطة والجيش والمؤسسات الأمنية، وأن أكثرية زعماء المليشيات أعضاء في جماعات إسلامية متطرفة، أو من مؤيديها وحلفائها، أو شركائها في العداء لعملية سياسية انتقالية تستند إلى توافق وطني واسع، وبناء مؤسسات سيادية تقف على مسافة واحدة من الجميع، باحترام التعددية والمسار الديمقراطي والتداول السلمي للسلطة، واستعادة هيبة الدولة والأمن والاستقرار.
وأمام مفترق الطرق الذي تقف أمامه ليبيا اليوم، إن واقع ميزان القوى على الأرض بين مؤسسات الدولة والميليشيات الخارجة عن السلطة الشرعية، وتناقضات الخارطة الحزبية وضعف مكوناتها، تجعل من الحسم العسكري للصراع غير ممكن، وحتى لو تحقق سيكون مكلفاً جداً وأكبر من قدرة ليبيا على الاحتمال والحفاظ على وحدتها، إلا إذا تسلحت مؤسسات الدولة الليبية برؤية سياسية وطنية واضحة وجامعة للخروج من عمق الزجاجة، تجتذب أوسع القطاعات الشعبية والحزبية، وتصوِّب أخطاء الماضي لوضع حد لسطوة المليشيات المسلحة والجماعات الإسلامية المتطرفة.
منتديات القوميون الجدد